إضافة إلى رؤى المحقق اليزدي (صاحب العروة)، وبناءاً على بعض استنباطات الإمام الشيرازي الراحل في موسوعة الفقه وعلى عدد من الروايات الشريفة للعترة الطاهرة عليهم السلام، قدّم سماحة الشيخ الحبيب سلسلة محاضرات أسبوعية جديدة(1)، بدءا من ليلة الأحد الموافقة لمساء التاسع من شهر شوال 1434 هجرية والأسابيع التي تلتها، مخصصًا سماحته هذه السلسلة لشرح وبيان أسس اختيار الأمة لقادتها الحكام من نواب الإمام الغائب عجل الله في فرجه الشريف وسهّل مخرجه، وذلك حال تطلّب الظروف عند فقدان أحد المراجع الأفاضل في الوقت الراهن.
وأشار الشيخ الحبيب ضمن سياق طرحه إلى أن هذه الرؤية المعروضة قد ذهب إليها عدد من الفقهاء ومنهم آية الله العظمى المجدد الشيرازي الثاني «رضوان الله عليه» بنحوٍ من الأنحاء، إذ كان قد علّق «رضوان الله عليه» على ما جاء في تفسير النعماني من نقل لقول أمير المؤمنين عليه السلام: لابد للأمة من إمام يقوم بأمرهم فيأمرهم وينهاههم ويقيم فيهم الحدود ويجاهد العدو ويقسّم الغنائم ويفرض الفرائض ويعرّفهم أبواب ما فيه صلاحهم ويحذرهم ما فيه مضارهم.
بقوله رحمه الله: يدل على أن المراد بالإمام أعم من المعصوم عليه السلام ونائبه الخاص. (كتاب البيع الجزء 5 الصفحة 19)
قبل أن يدعّم سماحته حديثه عن ضرورة تطلب وجود سمة الشجاعة في النائب العام للإمام (أي مرجع التقليد) باستعراض النصوص الواردة في شأن صفات الإمام الذي ينبغي أن تأتم به الأمة، فكان من تلك النصوص:
عن الحسن بن علي بن فضّال عن الإمام الرضا عليه السلام: للإمام علامات؛ يكون أعلم الناس، وأحكم الناس، وأتقى الناس، وأحلم الناس، و(أشجع الناس)، وأسخى الناس، وأعبد الناس. (عيون الأخبار الجزء 2 الصفحة 192)
عن إسماعيل بن جابر عن الإمام الصادق عليه السلام أن أمير المؤمنين عليه السلام قال: والإمام المستحق للإمامة له علامات فمنها أن يعلم أنه معصوم من الذنوب كلها، صغيرها وكبيرها، لا يزلُّ في الفتيا، ولا يخطأ في الجواب، ولا يسهو ولا ينسى، ولا يلهو بشيءٍ من أمر الدنيا، والثاني أن يكون أعلم الناس بحلال الله وحرامه وضروب أحكامه وأمره ونهيه وجميع ما يحتاج إليه الناس فيحتاج الناس إليه ويستغني عنهم، والثالث يجب أن يكون (أشجع الناس) لأنه فئة المؤمنين التي يرجعون إليها إن انهزم من الزحف انهزم الناس لانهزامه. (بحار الأنوار/ج25/ص164)
عن سلمان الفارسي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم قال لفاطمة عليها السلام: أما تعلمين يا بنيّ أن من كرامة الله إياكِ أن زوّجك خير أمتي وخير أهل بيتي، أقدمهم سلما، وأعظمهم حلما، وأكثرهم علما، وأكرمهم نفسا، وأصدقهم لسانا، و(أشجعهم قلبا) وأجودهم كفا وأزهدهم في الدنيا وأشدهم اجتهادا. (كتاب سليم بن قيس الصفحة 133)
وحول كون الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام أشجع الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وآله، عقّب سماحة الشيخ الحبيب أن صفة (الأشجعية) هي من جملة استدلالات الشيعة على المخالفين في إمامة المرتضى عليه السلام، إذ ورد في جملة من طرقهم عن ابن عباس مثلا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لفاطمة عليها السلام: أن الله اطّلع على أهل الدنيا فاختار من الخلائق أباكِ فبعثه رسولاً نبيّا ثم اطلع ثانية فاختار من الخلائق عليّا فزوّجكِ إياه واتخذه وصيّا فهو أشجع الناس قلبا. (ينابيع المودة الجزء 2 الصفحة 395)
وقول المحدّث البكري الشهير عامر بن شراحيل الهمداني المعروف بالشعبي: كان عليٌ أشجع الناس. (أنساب الأشراف للبلاذري الصفحة121)
وقول ابن أبي الحديد في تعداد خصال أمير المؤمنين عليه السلام: وأما الشجاعة فأنه أنسى الناس فيها ذكر من كان قبله ومحا اسم من يأتي بعده. (شرح نهج البلاغة الجزء 1 الصفحة 20)
من جهته اعتبر الشيخ الحبيب أن صفة الشجاعة لابد وأن تنحسب ليكون وجودها شرطاً في النائب العام للإمام المنتظر عجل الله فرجه الشريف، أي الفقيه الذي تؤول إليه المرجعية والتقليد، معللا ذلك بأن المرجع الشجاع سيقود الأمة إلى أن تتشجع ويتقوّى أفرادها فتسير نحو التطور والنمو والارتفاع والتصلب إلى أن تصبح قادرة على خوض غمار التحديات مع الحضارات والأمم الأخرى، بينما المرجع الجبان سيقود الأمة إلى أن تتثبط عزائم أفرادها فتخسر وتتقهقر وتصاب بالضعف والاندكاك في مقومات القوة، فتسير نحو الانحدار حضاريا إلى أن تضمر أو تتجه للذوبان في الآخرين.
وبيّن الشيخ الحبيب أنه ليس في معرض تشخيص الواقع وإنما هو في معرض بيان وجوب توفر صفة مطاردة الخوف لترجيح المرجع الحاكم الذي تأخذ الأمة بإتباعه حالما يكون هناك عدة مراجع متساوين في مستوى الأعلمية والأعدلية، لا أكثر ولا أقل، لا كما يتوهم بعض الجهلة بأنه يريد أن يبتدع قولاً بجعل الأشجعية شرطًا أولا لاختيار مرجع التقليد، وإضافة إلى هذا نبّه سماحته إلى أن استنباط مثل هذه الأحكام الشرعية، سواءا في هذا المورد أو في غيره، لا يكون مقصورًا على ما ورد حول الموضوع في عناوين أبواب كتب المجامع الحديثية، وإنما الاستنباط مجاله مفتوح من خلال سائر الروايات والآثار الشريفة الواردة عن المعصومين عليهم الصلاة والسلام.
وأكمل سماحته أن من جملة الأدلة المطروحة لهذا القول:
قول أمير المؤمنين عليه السلام: فقدّموا الدارع وأخروا الحاسر، وعضوا على الأضراس فأنه أنبى للسيوف عن الهام، والتووا في أطراف الرماح فإنه أموْرَ للأسنة، وغضوا الأبصار فإنه أربط للجأش وأسكن للقلوب، وأميتوا الأصوات فإنه أطرد للفشل، ورايتكم فلا تميلوها ولا تخلوها ولا تجعلوها (إلا بأيدي شجعانكم) والمانعين الذمار منكم. (الكافي الجزء 5 الصفحة 39)
وتعليقا على هذا النص شدد سماحته بعد إتمامه أنه يدل على ضرورة التأمل في وضع حاشية حامل الراية أي مرجع التقليد، بلا ذمٍ فيه، فعلى الأمة قدر استطاعتها أن تمنع وصول الأقل شجاعة إلى هذا الدور، فتختار من لديها من الشجعان ليقوموا به في مواجهة التحديات والمحن.
واستطرد الشيخ الحبيب «حفظه الله» أن اختيار الأمة لمرجعٍ أقل شجاعة لا يؤثر سلباً على الوضع العام المتعلق بالحرب ضد من شنّوا حربهم على مقدسات شيعة أهل البيت عليهم السلام وعلى الأئمة الأطهار من آل محمد فحسب وإنما ينعكس سلباً على إظهار فتاويه لمقلديه في الأمور التي تسبب صداماً في المجتمع بشكلٍ عام، فبعيدًا عن التصريح والتلميح ببيان شأن بعض الأشخاص، فإن المرجع الأقل شجاعة عمومًا يخاف من إظهار الافتاء بشيء من الحق بمنتهى الوضوح فيلتمس لنفسه الرخص والمعاذير كي يبتعد عن المواجهة والصدامات، كأن يفتي بما لا يوافق الحق فيضل الناس ثم يعلّق ذلك بباب من أبواب الرخصة كالتقية والاضطرار ودرء الفتن وتقديم الأهم على المهم، فيختلط بسببه الحق بالباطل عند الناس. هذا وما تزال سلسلة الشيخ من بعد كتابة هذا التقرير مستمرة.
(1) هنا المحاضرة الأولى والثانية من السلسلة المذكورة: