على بركة الله تعالى، وبعد الاستعاذة بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، والصلاة على أرحم الخلائق محمد وأهل بيته الطيبين الطاهرين، واللعنة على قتلتهم وأعدائهم أجمعين، تفضل سماحة الشيخ الحبيب في ليلة عاشوراء لسنة 1432 هجرية من منبره بحسينية سيّد الشهداء في لندن وعبر شاشة قناة فدك الفضائية بخطاب مطوّل دام ثلاث ساعات متواصلة، رد فيه سيل التهم والأباطيل الموجهة إلى إحدى شعائر أبي عبد الله الحسين «عليه السلام» ألا وهي شعيرة التطبير التي تواجه أعتى هجمة تشكيكية وحرب إعلامية ضد شعيرة من الشعائر على مر العصور.
متقدمًا سماحته قبل كل شيء إلى مولانا وسيدنا صاحب الأمر«صلوات الله وسلامه عليه» بأصدق التعازي بمناسبة ذكرى استشهاد جده سيد الشهداء و الثلة المؤمنة من أهل بيته وأصحابه الذين استشهدوا بين يديه، سائلاً الله تعالى أن يعجّل له الفرج، كي يأخذ بثأر الإمام الحسين المظلوم، ويقيم دولة الحق والعدل التي ينعم بها بني البشر.
وأكد الشيخ «حفظه الله» في بادئ الأمر أن يوم عاشوراء العظيم هو يوم قضية الحسين والشعائر الحسينية بشكلٍ عام، ومن أهم هذه الشعائر شعيرة الإدماء التي تجسّد واقعة كربلاء بصورة حيّة لكل إنسان يشارك فيها أو ينظر إليها، مشددًا سماحته على أن هذه الذكرى تختلف عن سائر الذكريات الأخرى عند الشعوب بأن المرء يستشعر من خلالها أن الحادثة المخلّدة قد وقعت الساعة، لا أنها حادثة قد أكل الدهر عليها وشرب؛ وهو الأمر الذي يستشعره كل من لم يسمع قط باسم الحسين «عليه السلام» حينما يرى للمرة الأولى موكبًا يسير أفراده في الشوارع باكين جازعين متفجعين يلطمون صدورهم ويضربون رؤوسهم ويدمون أنفسهم بهذا الشكل المهيب، فيهتز وجدانه اهتزازا من الأعماق وتبدأ في ذهنه التساؤلات.
وفي إطار هذه المقدمة دلّل الشيخ بمثال معاصر أن هذا الأمر يعدّ إعجازًا بحد ذاته، إذ أن ما مضى على استشهاد الحسين عليه السلام يقرب من ألف وأربعمئة سنة، بينما نجد أن مستوى التفاعل مع القضية يتزايد كل عام عند الشعوب والأفراد بمختلف الأعراق والأصول، وليس في تناقص مستمر كما هو الحال حينما يفقد المرء عزيزا له، وكشاهد على ذلك طرح سماحته قصة الكولونيل البريطاني لبنس هوبت الذي أسلم في جنوب العراق أيام الانتداب البريطاني بعد رؤيته الشعائر الحسينية فأقام بعد ذلك المجالس الحسينية في لندن ودعا إليها جيرانه النصارى، حيث جرّته المواكب المهيبة التي يُضرَّج أفرادها بالدماء إلى أن يطرح تساؤلاته حول ما ترمز إليه هذه الشعائر ويجد إجابات أسئلته عبر المتعاونين معه من المترجمين، وقد دوّن ذلك في مذكراته التي يجدر الإطلاع عليها.
فالخلاصة هي أن قضية الحسين «عليه الصلاة والسلام» لا تموت ما دامت هذه الشعائر باقية، أمّا لا سمح الله إذا ما انساق الناس إلى دعوات الجهات المنحرفة التي تحاول إماتة هذه الشعائر أو إماتة بعضها فأن ذلك سيجرد الذكرى الحسينية من حرارتها ويجعلها ذكرى باردة، والذكرى الباردة سرعان ما تموت مع مرور الوقت.
فهذه الجهات المنحرفة تريد أن تبدأ طريقها بمهاجمة الإدماء أو التطبير أولاً، فإذا تم لهم ذلك انتقلوا إلى الضرب بالسلاسل وسيسوقون نفس المبررات ضد هذه الشعيرة، بأنها غير حضارية وممارستها لا تنسجم مع التحضّر على حد زعمهم، ثم سينتقلون إلى اللطم العنيف على حد تعبير البتري الهالك محمد حسين فضل الله الذي لا يؤيد اللطم العنيف ويدعو إلى اللطم الخفيف، ثم سينتقلون إلى اللطم الخفيف، ثم سينتقلون إلى البكاء الذي عبّر عنه الهالك أحمد الوائلي في إحدى مقابلاته في الإمارات بأنه على هذا النحو المعمول به حاليا لا يقبله ولا يجده مناسبا، داعيًا إلى التركيز على القيم الحضارية وما أشبه على حد تعبيره.
وحتى الصراخ على الحسين أيضا سيحاربونه، وقد فعل ذلك نعثل قم (ناصر مكارم شيرازي) قبل حوالي سنتين، حيث هاجم الصراخ في مجالس البكاء على الحسين معتبرًا إياه ليس من قضية الشعائر وناهيًا عنه، في حين أن الأئمة «عليهم الصلاة والسلام» يقولون: ”رحم الله تلك الصرخة التي كانت لنا“.
وقد تصدى له المرجع الشيخ الوحيد الخرساني «حفظه الله» في جزء من درسه الذي يلقيه في البحث الخارج بالحوزة العلمية في قم، حيث أكّد على أهمية شعائر أبي عبد الله الحسين داعيًا إلى إسالة الدماء في مواساته.
وشدد الشيخ الحبيب أن ما يدعو هذا الخط المنحرف لمحاربة هذه الشعائر المقدسة هو الشعور بالتصاغر أمام الحضارات الغربية والمجتمعات البكرية، ولو انساق المؤمنون خلفه فأنه سيقودهم إلى إماتة ذكرى الحسين عليه الصلاة والسلام وإيصال مستواها إلى الوقوف لدقيقة صمت أو حَدَثَ في مثل هذا اليوم.
وعليه فأن شعيرة الإدماء هي بمثابة حرف (الألف) إذ أننا لو تنازلنا عنها كان حالنا كحال من قبضوا عليه واعترف تحت التعذيب بشيء ما فيجري عليه المثل (الألف تجر الباء والباء تجر ما بعدها)، فشعيرة الإدماء هي قمة الشعائر التفاعلية حيث أنها تتم بأغلى ما يملكه الإنسان – وهو دمه – وبذلك ترسم صورة تعبيرية للتضحية والفداء من أجل المبدأ وحفظه للأبد.
ووجّه سماحته الدعوة إلى هذه الجهات التي تسعى في كل عام إلى محاربة هذه الشعيرة إلى أن تعي وتفهم أن معركتها خاسرة، لأنها بالأصل نابعة عن المزاج لا عن فقه وعلم وحضارة فعلية، إذ أن الشرع يسند هذه الشعيرة كما أن الحضارة السويّة تسندها كذلك، ولا ضير إن لم تسندها الحضارة التي تبيح الشذوذ وما أشبه عبر عقد قران في الكنيسة بين ذكر وذكر أو أنثى وأنثى، إذ أن هذه الممارسة التعبدية قد قيّمها أساتذة الجامعات المتنورين من المطلعين على فلسفة الشعائر الحسينية وقد أثنوا عليها ثناءًا كبيرًا، وقد اعتبرها بعض الباحثون والأكاديميون سر بقاء العقيدة الشيعية لتجديدها قضية يوم عاشوراء في كل عام والذي يربط بدوره الجماهير بمبدأ التشيّع ويكسب الفرد منهم شحنة عقائدية وأخلاقية في أعلى مستويات الشحن في يوم من أيام السنة، فالقول بأن هذه الطقوس تسبب تنفيرًا للمجتمعات الغربية هو في الواقع مجرد وهم ومغالطة.
وأضاف الشيخ الحبيب أن الدليل على أن هذه الفئة من رجال الدين الذين يحاربون هذه الشعيرة هي فئة تشعر بالتصاغر أمام الآخرين هي أنهم حين يأتون إلى المجتمعات المخالفة لهم يخجلون أن يمشوا بزيهم الديني فيلبسون لباسًا آخر حتى لا تتوجه لهم عيون المجتمع المخالف بنظرة أنهم شواذ عن هذا المجتمع، حتى أن بعضهم في لندن لا يلبس زيّه الديني إلا عندما يدخل في المجلس الذي دُعِيَ إليه!
أن هذه الفئة التي تشعر في نفسها بالحقارة إذا ما اعتمرت عمامة رسول الله في المجتمع المخالف، لا يرتجى منها خيرًا إذ من الطبيعي أنهم يشعرون بالانهزام أيضا من شعيرة التطبير أو اللطم وغيرها من الشعائر الأخرى حسب درجة شعورهم بالنقص، إلى درجة أن بعضهم يتحرّج من أن يؤدي الصلاة الواجبة في لندن حال وجوده في الأسواق أو الأماكن الحكومية ويؤثِر أن يأتي بها قضاءًا على أن يؤديها أمام الناس.
وأردف سماحته أن المنهج الآخر – الذي يمارس هذه الشعيرة – هو منهج يرى في نفسه العزة والإباء ولا يخجل من منطقه وتراثه وما في كتبه وهو منهج يعمل بشكل واضح وصريح.
ولهذا تجد أن أصحاب المنهج الأول – الذي يستشعر في نفسه الحقارة أمام الطرف المخالف – يسعى لثني الناس عن شعيرة التطبير عبر استخدام العنف، ومثالٌ على ذلك نظام إيران الجائر الذي يمارس في كل عام أبشع صور الاضطهاد ضد من يريد المشاركة في إحياء هذه الشعيرة المقدسة، وخصوصًا في أصفهان، فيعتقلهم قبل يوم العاشر من محرم ولا يفرج عنهم إلا بعد العاشر من محرّم حتى يفوّت عليهم الفرصة.
حتى أنهم أخبروني قبل يومين بأن جلاوزة خامنئي دخلوا كالوحوش على أحد المجالس الحسينية في أصفهان واعتقلوا عشرين شابًا وأودعوهم في السجن مع المجرمين والمدانين بالقضايا الأخلاقية وأخبروهم بأن القائمة ستطال مئتين فردًا حتى لا يشاركون في التطبير.
هذا المنهج هو المنهج الأموي اليزيدي ذاته، إلى درجة أنهم قبل سنوات قتلوا شابًا – وإن كان الواقع هو أكثر من شاب إلا أن هذا ما وصلنا– وقد حصلنا على صور فيديو واضحة لهذا العمل الجبان، وكان اسم الشاب الشهيد حميد رضائي وهو شاب يبلغ من العمر 17 عامًا فقط، قتلوه يوم العاشر من محرم لأنه كان يطبّر.
وعليه فأنه لا فرق بين هذا النظام وبين نظام آل سعود أو نظام آل خليفة أو نظام صدام أو أي نظام آخر من الأنظمة القمعية التي تحارب الشعائر الحسينية لأنها تحرك الجماهير وتدفعهم نحو الثورة.
وحتى نظام آل صباح هو نظام محارب للشعائر الحسينية إذ أنه يمنع المواكب العزائية من أن تسير في الشوارع، وقد أضافوا لذلك محاربة جديدة بمنع استمرار هذه المواكب بعد الثانية عشر والنصف من منتصف الليل، بل منع التجمعات حتى لو كانت داخل الحسينيات لمن يريدون إحياء هذه الشعائر إلى طلوع الصباح.
وذلك كله لعلم هذه الأنظمة أن الحماس الموجود لدى الأمة الشيعية لو فسحوا له المجال، واستطاع أحد ما أن يوظفه ضد بعض الأنظمه المعادية في يوم العاشر من محرم فأنه يتمكن من أن يقود انتفاضة كبرى كما فعل الشيعة ذلك في مدينة النبطية بجنوب لبنان حيث خرج موكب تطبير ارتعد منه الصهاينة ورجعوا إلى ثكناتهم مما شجع بانطلاق شرارة المقاومة كما يذكر ذلك الشيخ علي الكوراني في أحد كتبه، حيث يؤكد على أن هذا الأمر عاينه وشاهده بنفسه لكونه من تلك البلاد.
هذا وقد جهدَ الاتحاد السوفياتي السابق بكل بطشه وجبروته بقيادة ستالين ومن معه في محاربة الأديان واحراق الملايين من المتدينين وتدمير مراكز العبادة الدينية عامة والإسلامية خاصة كالمساجد وغيرها، فقضوا على كل المظاهر الإسلامية من صلاة جماعة وعيد وحج إلا أنهم لم يتمكنوا من القضاء على مواكب التطبير في يوم العاشر من محرم، حيث يحكي الآذريون في آذربيجان أنهم كانوا ممنوعين من كل ممارسة تعبدية إسلامية وكانوا إذا اقترفوا ذلك بتمرد فأنهم كانوا يُذبحون ويقتلون ويسجنون، إلا أن تمردهم في يوم العاشر من محرم بضرب رؤوسهم وإدمائها في الشوارع كان يجعل العدو السوفياتي يفر من رعب المنظر وهيبة الموكب رغم ما بيده من البنادق.
وأتى الشيخ على رد أولى الشبهات وأولى طرق الاحتجاج للطرف المناوئ الذي يريد أن يستشكل على إقامة هذه الشعيرة ألا وهو القول:
• إنها ليست شعيرة من الشعائر الحسينية فالمعصومون لم يطبّروا انفسهم!
وردّ سماحته على هذا الإشكال المتهافت مركّزًا على كسر هذا الاستدلال الواهن الذي يأتي به المناوئون بكشف مبدئي هو أن هذا الاستدلال بحد ذاته يعتبر جهل بأصول الاحتجاج، لأن الأصل في الأشياء الإباحة وليس الحرمة أولاً، وثانيًا أن المعصومين عليهم السلام من الثابت أنهم قد أدموا أنفسهم من أجل الحسين، وأصل الإدماء يكفينا في إثبات شرعية بل استحباب أن يدمي الإنسان نفسه بهذا العنوان وهذا الغرض وإن اختلفت الكيفية.
ومن يريد أن يستشكل على ما سنورده من روايات في إدماء المعصومين أنفسهم في اختلاف الكيفية نقول له وكذلك لم ينصب المعصومون منبرًا يتجمع حوله الناس ويأتي رادود يقرأ أبياتـًا ويلطم معه اللاطمون بهذه الردات المتعارفة على النحو المعمول به اليوم، ولكن الثابت أن المعصومين قد لطموا أنفسهم وقالوا ”على مثل الحسين فلتشق الجيوب، ولتخمش الوجوه، ولتلطم الخدود“.
وسبحان الله فأن هذا المنطق نفسه هو المنطق الوهابي الغبي، الذي يقول أن في زمن النبي لم يكن هناك حسينيات، والذي يجاب عليه بأن ذلك صحيح ولكنه ليس ملازم للحكم عليها بأنها بدعة وغير مشروعة إذ لم يكن في زمن النبي فضائيات.
واستعرض سماحته مجموعة من الروايات التي تؤكد صدور أصل الإدماء من المعصومين (عليهم السلام)، كان أولها ما رواه المجلسي والسيد عبد الله شبر في (جلاء العيون) أن زين العابدين عليه السلام كان إذا أخذ إناءً ليشرب يبكي حتى يملأه دمًا. (بحار الأنوار/ج45/ص115)
وأردف سماحته توضيحًا أن هذا يعني أن الدموع قد نفذت من عيون الإمام السجاد «عليه السلام» إلى أن أصبحت عيناه تبكي دمًا، وهذا دليل كافي لإثبات مشروعية أصل الإدماء على الحسين واستحبابه.
ونبّه سماحته أنه قد يتنطع بعض الجهلة بالقول أننا رجعنا إلى بعض النسخ المتداولة اليوم من كتاب (جلاء العيون) وغيره فوجدنا اللفظ ”حتى يملأه دمعا“ وليس دمًا! فنقول لهم أن هذا تصحيف نبّه عليه آية الله الشيخ حسن المظفر حيث نصّ في أحد مؤلفاته على أنه رجع إلى الكتب المخطوطة فوجد اللفظ (دمًا) لا دمعًا. (نصرة المظلوم/ص10)
وأكد الشيخ الحبيب على أن هذا الحديث يعضده حديث آخر رواه الشيخ الصدوق «رضوان الله عليه» عن الإمام الرضا «عليه السلام» حيث قال: ”أن يوم الحسين أقرح جفوننا“. (عيون أخبار الرضا)
وشرح الشيخ لفظ العبارة بأنه يفيد الإدماء وإن كان داخليًا فيتجلى المعنى في الحديث أن الإمام الرضا «عليه السلام» كان يدمي عينيه أراديًا بالبكاء على الإمام الحسين صلوات الله عليه.
وأضاف سماحته.. أنه بالإضافة إلى هذا فقد ورد نص صريح ومعتبر في زيارة الناحية المقدسة عن صاحب العصر «أرواحنا فداه» وهو قوله: ”ولأبكين عليك بدل الدموع دما“.
وقد تطور هذا الأصل (إدماء المعصومين أنفسهم) مع مرور الزمن، إلى إدماء الرؤوس والظهور والصدور إذ أن الناس ليس لهم قدرة المعصوم في البكاء حتى يبكوا دمًا من أعينهم بعد أن تنفذ دموعهم.
وليس فقط الأئمة المعصومين قد أدموا أنفسهم على الحسين، بل أن حتى الأنبياء أدماهم الله على الحسين قبل أن يولد حتى يعلّمنا الإدماء عليه وفعلهم حجّة علينا.
فقد جاء في الروايات الشريفة التي رواها المجلسي في بحاره والطريحي في منتخبه:
أن آدم لمّا هبط إلى الأرض لم ير حواء فصار يطوف في طلبها فمر بكربلاء فاغتم وضاق صدره من غير سبب وعثر في الموضع الذي قتِل فيه الحسين حتى سال الدم من رجله فرفع راسه إلى السماء وقال: إلهي هل حدث مني ذنب آخر فعاقبتني به فإني طفت جميع الأرض وما أصابني سوء مثل ما أصابني في هذه الأرض؛ فأوحى الله إليه: يا آدم ما حدث منك ذنب ولكن يُقتل في هذه الأرض ولدك الحسين ظلمًا فسال دمك موافقة لدمه.
وأن إبراهيم عليه السلام مرّ في أرض كربلاء وهو راكب فرسًا فعثرت به وسقط إبراهيم وشجّ رأسه وسال دمه، فأخذ في الاستغفار وقال: إلهي أي شيءٍ حدث مني؟ فنزل إليه جبرئيل عليه السلام وقال: يا إبراهيم ما حدث منك ذنب ولكن هنا يُقتل سبط خاتم الأنبياء وابن خاتم الأوصياء فسال دمك موافقة لدمه.
وأن موسى عليه السلام كان ذات يوم سائرًا ومعه يوشع ابن نون عليه السلام، فلما جاء إلى أرض كربلاء انخرق نعله وانقطع شراكه ودخل الحسك في رجليه وسال دمه، فقال: إلهي أي شيء حدث مني؟ فأوحى الله إليه أن هنا يُقتل الحسين وهنا يُسفك دمه فسال دمك موافقة لدمه.
وعلّق الشيخ الحبيب على هذه الرواية بأنها كاشفة عن أن الإدماء على الحسين في يوم العاشر من محرم هو أمر محبوب عند الله تبارك وتعالى والأفضل فيه أن يوافق أرض كربلاء المقدسة، فعلى ماذا ينكر علينا المناوئون؟
وأضاف سماحته أيضا.. أن جماعة من المؤمنين بقيادة صعصعة بن صوحان كانوا قد وصلوا متأخرين إلى كربلاء بعد تسعة أيام من عاشوراء، ولمّا علموا باستشهاد الحسين أخرجوا سيوفهم من أغمادها وأخذوا يضربون رؤوسهم، وتقول الروايات أن دماؤهم سالت على قبر الحسين وامتزجت مع دمه الطاهر.
وختم الشيخ الحبيب ردّه على هذه الشبهة بالتأكيد على أنه من حيث ثبوت الأصل فأنه لا يكاد يكون هناك روايات وآثار تدعّم شعيرة من الشعائر بقدر ما لشعيرة الإدماء من روايات وآثار، وعليه فأن سوْق هذا الاتهام لهذه الشعيرة نابع من قلة العلم لدى القائلين بذلك ويدل على انحدار المستوى المعرفي الضحل للناس المنساقين وراء هؤلاء القائلين والمخدوعين بهم، ولذا فأن القول منحصر بمنتحلي الفقاهة والمرجعية والمنحرفين عن التشيّع.
ومن جهته فنـّد الشيخ «حفظه الله» ثاني الشبهات وطرق الاحتجاج للطرف المناوئ الذي يحارب شعيرة الإدماء في قوله:
• فلان وفلان وفلان حرّموا التطبير:
وبيّن سماحته أن هذا الطرف يلجأ إلى الكثير من الكذب والتضليل لخداع العوام، فضلاً عن التهافت في بعض الأسماء التي يذكرها والتي منها (محسن الأمين) وهو رجل ليس بمرجع وكان لديه جملة من النقائص والآراء الشاذة التي انتفض ضدها العالم الشيعي بكل فقهائه إلى درجة أن بعض الفقهاء في عصره قد فسّقوه، فكيف يحتج باسم هذا الشخص الذي لا تسالم عليه؟
ومن بين هذه الأسماء (السيد أبو الحسن الأصفهاني) والذي على ما يبدو تم الكذب عليه ليقال أنه كان في زمن محسن الأمين ولم ينكر عليه قوله ضد شعائر الإدماء، ولذا فأنه لا يوجد في الآثار المكتوبة ما يدعم هذا القول المنقول والمنحول، بل يوجد العكس حيث نصّ آية الله العظمى الشيخ محمد رضا الطبسي وهو أحد كبار تلامذة السيد أبو الحسن الأصفهاني على أنه كان موجودًا معه ذات مرة في حرم العباس «عليه السلام» فجاءه رجل وسأل عن ضرب الرؤوس بالقامات فأجابه السيد الأصفهاني بجواز ذلك، وجواب الشيخ الطبسي في الرد على ما نسب لأستاذه موجود بخط يده وعليه ختمه منذ ثلاثين عاما وهو منشور في الكتب.
ومن بين هذه الأسماء المنحول إليها هذا القول (السيد حسين علي البروجردي)، مع أن فتواه في رسالته العملية (وسيلة النجاة) حول مسألة ما إذا كان يجوز للشخص أن يضرب نفسه يوم العاشر هي قوله ”في صورة عدم الإضرار بالنفس جائز“.
ومن بين هذه الأسماء (المحقق الخوئي)، وهذا افتراء كبير لأن فتواه معروفة في التطبير ويؤكدها تلامذته، كما يؤكد ذلك أن السيّد الخوئي قد وقـّع بالتأييد جوابًا منشورًا حول استفتاءات المسائل البصرية لأستاذه الميرزا النائيني.
أما جواب الميرزا النائيني على أهل البصرة فكان: ”وأما إخراج الدم من الناصية بالسيوف والقامات فالأقوى جواز ما كان ضرره مأموناً. وكان من مجرد إخراج الدم من الناصية بلا صدمة على عظمها ولا يتعقب عادة بخروج ما يضر خروجه من الدم، ونحو ذلك، كما يعرفه المتدربون العارفون بكيفية الضرب، ولو كان عند الضرب مأموناً ضرره بحسب العادة، ولكن اتفق خروج الدم قدر ما يضر خروجه لم يكون ذلك موجباً لحرمته ويكون كمن توضأ أو اغتسل أو صام آمناً من ضرره ثم تبين ضرره منه، لكن الأولى، بل الأحوط، أن لا يقتحمه غير العارفين المتدربين ولا سيما الشبان الذين لا يبالون بما يوردون على أنفسهم لعظم المصيبة وامتلاء قلوبهم من المحبة الحسينية، ثبّتهم الله تعالى بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة“.
وهذا الفتوى الخالدة وقـّع في تأييدها جمهرة كبيرة من الفقهاء من بينهم السيد محسن الحكيم، والفتاوى موجودة بعضها بخط يدهم وبعضها بخط معاونيهم مع أختامهم.
ومن بين هذه الأسماء (السيد علي السيستاني) الذي يضاف اسمه إلى هذه القائمة بكل وقاحة، بينما أن من بين المنشور من استفتاءاته الموثقة من قبل مكتبه، استفتاء حول ضرب الزنجيل الذي يسبب الإدماء فكان جوابه ”لا إشكال“، كما أن ختم مكتبه في قم موجود على تأييد فتوى الميرزا النائيني، فلماذا الكذب على المراجع؟ هذا وكذبهم قد طال الأحياء فما بالك بالأموات؟ سبحان الله أنه المنطق البكري نفسه!
أما عن ورود اسم (خامنئي) فهذه القائمة، فنقول أن خامنئي سياسي تبوّأ موقع المرجعية وهو ليس بعادل ولا مجتهد أصلاً فهو فاقد لشرائط التقليد، وكذلك الحال مع (محمد حسين فضل الله).
أما عن ورود اسم (خميني) في هذه القائمة فهو غير عادل أولاً، ومنحرف عقائديًا ثانيًا، أي أنه فاقد لأهلية الإفتاء إلا أنه للإنصاف لم يحرّم التطبير بل غاية ما هنالك أنه نصح بالامتناع عن التطبير لكنه لم يمنعه من أن يسير في الشوارع بكل المدن الإيرانية ولم يعاقب عليه، إلى أن جاء خامنئي فمنعه بواسطة جلاوزته من قوات الأمن بالقوة.
وأردف الشيخ.. أنه بأي وجه حق يرمي هؤلاء من يمارس هذه الشعيرة بأنه يأتي ببدعة ويعاقب على ما يصنع وهو من معه من المطبرين يقلدون في عملهم هذا المراجع الفقهاء العدول من الزعماء العظام للحوزة العلمية في قم المقدسة والنجف الأشرف؟
وبعد أن ذكر سماحته أسماء ثمانية مراجع أحياء قالوا برجحان شعيرة التطبير هم: ”السيد صادق الشيرازي، والشيخ الوحيد الخراساني، والسيد صادق الروحاني، والسيد تقي القمي، والسيد محمد سعيد الحكيم، والشيخ اسحاق الفياض، والشيخ بشير النجفي“؛ سخر الشيخ الحبيب من الطرف المناوئ الذي يحاول أن يجاري المؤمنين الذين أعدّوا قائمة بأسماء مئات المراجع الذين افتوا برجوح التطبير واستحبابه، وذلك عبر إعداده قائمة مماثلة يجمع فيها إلى جانب أسماء المراجع المنحرفين ومنتحلي المرجعية أسماء بعض من هم ليسوا بمراجع أصلاً أي أنهم ليس لهم أحقية الافتاء، من بينهم مثلاً (هاشمي رفسنجاني) و(أحمد الوائلي) و(حسن نصر الله) وغيرهم ممن يعرف الطفل الشيعي الصغير أنهم ليسوا مراجع ولم يدّعوا المرجعية.
كما نصح سماحته الوحوش المناوئين لهذه الشعيرة ممن يعتدي على سلامة المطبرين بحجة ممارستهم للمنكر أن يظهر مراجله على سائر المنكرات الأخرى – إن صح التعبير – كمحلات بيع الأغاني في إيران على سبيل المثال من باب تطبيق الشرع، متسائلاً ألا يوجد منكر غير التطبير؟! ولماذا يصل الأمر إلى القتل؟ أي شرع أباح ذلك؟
ونصحهم أيضا بأن يتركوا التعرّض لمن يخالفهم ويمارس هذه الشعائر، فيمضوون في سبيلهم على شعار ”لبيك يا خامنئي“ حتى يحشرون معه، ويتركون المؤمنين مع شعارهم ”حيدر.. حيدر.. حيدر“، حتى يحشرون مع إمامهم وقبلتهم في نصرة العقيدة.
ثم عاد الشيخ إلى ما سبق، وهي روايات أصل الإدماء ليتوقف على رواية مسلم الجصاص، الرواية التي نقلها العلامة المجلسي في بحار الأنوار، والتي نص على أنه نقلها من الكتب المعتبرة، والتي هي بتمامها هكذا:
”عن مسلم الجصاص قال: دعاني ابن زياد لاصلاح دار الإمارة بالكوفة، فبينما أنا أجصص الأبواب وإذا أنا بالزعقات قد ارتفعت من جنبات الكوفة، فأقبلتُ على خادم كان معنا فقلت: ما لي أرى الكوفة تضج؟
قال: الساعة أتوا برأس خارجي خرج على يزيد، فقلت: من هذا الخارجي؟ فقال: الحسين بن علي «عليهما السلام«.
فتركت الخادم حتى خرج ولطمت وجهي حتى خشيت على عيني أن تذهب، وغسلت يدي من الجص وخرجت من ظهر القصر وأتيت إلى الكناس فبينما أنا واقف والناس يتوقعون وصول السبايا والرؤوس إذ قد أقبلت نحو أربعين شقة تحمل على أربعين جملا فيها الحرم والنساء وأولاد فاطمة «عليها السلام» وإذا بعلي بن الحسين «عليهما السلام» على بعير بغير وطاء، وأوداجه تشخب دما، وهو مع ذلك يبكي ويقول:
يا أمّة السوء لا سقيا لربعكم.. يا أمة لم تراع جدنا فينا
لو أننا ورسول الله يجمعنا.. يوم القيامة ما كنتم تقولونا؟
تسيّرونا على الأقتاب عاريةً.. كأننا لم نشيّد فيكمُ دينا؟
بني أمية ما هذا الوقوف على.. تلك المصائب لا تلبون داعينا؟
تصفقون علينا كفكم فرحًا.. وأنتم في فجاج الأرض تسبونا
أليس جدي رسول الله ويلكم.. أهدى البرية من سبل المضلينا؟
يا وقعة الطف قد أورثتني حزنا.. والله يهتك أستار المسيئينا
وصار أهل الكوفة يناولون الأطفال الذين على المحامل بعض التمر و الخبز والجوز، فصاحت بهم أم كلثوم وقالت: يا أهل الكوفة إن الصدقة علينا حرام، وصارت تأخذ ذلك من أيدي الأطفال وأفواههم وترمي به إلى الأرض، كل ذلك والناس يبكون على ما أصابهم.
ثم إن أم كلثوم أطلعت رأسها من المحمل، وقالت لهم: صه يا أهل الكوفة تقتلنا رجالكم ، وتبكينا نساؤكم؟ فالحاكم بيننا وبينكم الله يوم فصل القضاء، فبينما هي تخاطبهن إذا بضجة قد ارتفعت، فإذا هم أتوا بالرؤوس يقدمهم رأس الحسين «عليه السلام» وهو، رأس زهري قمري أشبه الخلق برسول الله «صلى الله عليه وآله» ولحيته كسواد السبج قد انتصل منها الخضاب، ووجهه دائرة قمر طالع والرمح تلعب بها يمينا وشمالا، فالتفتت زينب فرأت رأس أخيها فنطحت جبينها بمقدم المحمل، حتى رأينا الدم يخرج من تحت قناعها وأومأت إليه بخرقة وجعلت تقول:
يـا هلالاً لـمّـا اسـتتم كـمالا.. غالـهُ خسـفـه فـأبـدا غـروبـا
ما توهمت يا شقيقَ فؤادي..كـان هـذا مـقـــدّراً مـكـتـوبـا
يا أخي فاطمُ الصغيرة كلّمها.. فـقــد كـاد قـلـبـهـا أن يــذوبا
يا أخي قلبكَ الشفيق علينا.. ما لهُ قد قسى وصـار صليـبا؟
يا أخي لو ترى علياً لدى الأسر.. مـع الـيــتـم لا يــطـيـقُ وجــوبـا
كلّـمـا أوجـعـوهُ بالضـرب ناداكَ.. بــذلٍ يــفيـضُ دمــعــًا ســكوبا
يا أخي ضــمّــهُ إليــكَ وقــرّبــهُ.. وسكـّـن فـــؤادهُ المـــرعـــوبــا
مـا أذلَ اليـتـيــمَ حـيـن يــنــادي.. بأبيــــــهِ ولا يـراهُ مـُــجــيــبــا“
وفنـّد سماحته أولى الأقوال وهي مقولة أن هذه الرواية وُجـِدت في (منتخب الطريحي) فإذن العلامة المجلسي نقلها منه، ومنتخب الطريحي ليس كتاب معتبر فإذن الرواية غير معتبرة! ؛ واصفـًا «حفظه الله» هذا القول بأنه قول الجهلاء الذين لم يدرسوا علم الرواية جيدًا، لأنه ليس من اللازم أن يكون المجلسي «رضوان الله عليه» نقلها من منتخب الطريحي المعاصر له بل قد يكون أخذها من مصدر ثاني أو ثالث أو رابع كما أخذها الطريحي، ثمّ أنه من الذي قال أن كتاب (منتخب الطريحي) في مثل هذه الموارد ليس بمعتبر؟
ثمّ أن هذه الرواية حكم باعتبارها الفقهاء كالعلامة المجلسي، وقد صححها شيخ الشريعة الأصفهاني، وغيرهم الكثيرين إذ أن هذه الرواية تخضع لقاعدة ”التسامح في أدلة السنن“ التي تسالم عليها الفقهاء بمن فيهم من لا يأخذ بها نظريًا إلا أنه يفتي بموجبها عمليًا لأنه لو تشددنا سنديًا لاندثرت كثير من المستحبات التي نعمل بها، كقراءة دعاء دعاء كميل مثلا، والذي وصل إلينا بسند مرسل، كما أن تسعة وتسعون بالمئة من روايات القضية الحسينية التي يأتي ذكرها على المنابر ضعيفة السند، فلو رفضنا كل رواية مرسلة وضعيفة السند لما تبقى لنا شيء من تاريخ واقعة كربلاء أصلا، ولذا فأن هذه الروايات تخضع لقواعد علم الدراية التي تبحث في وثاقة الصدور والتي منها على سبيل المثال: قاعدة المخالفة لأهل العامة، وقاعدة الشهرة، وقاعدة الموافقة للكتاب، وإلى ما هنالك من أمور يعرفها من يشتغل بالفقه والفقه الاستدلالي تحديدًا والبحث الخارج.
هذا بالأضافة إلى الإشارة بأننا لو تأملنا في بعض الروايات الصحيحة السند لوجدنا أن المنهج العلمي المندرج تحت باب (التعادل والترجيحات) يرفضها، كبعض الروايات التي يكون ظاهرها تحريف القرآن وبعض الروايات المرتبطة بباب الصلاة، وما أشبه.
وعليه فأن اعتبار أي رواية لا ينحصر بمناقشة السند إذ أن هذا منهج العاجز ومنهج الحشوية من المخالفين، فالسند واحد من طرق الحكم باعتبار أي رواية والأصل هو النظر في المتن.
وعلى أي حال فبما أن هذه الرواية قد اصبحت من جملة استدلالات المطبرين بمشروعية هذه الشعيرة وقد دخلت في أدبياتهم:
لا تسل يا لائما عن شجّ رأس العاشقين..
اصدرت فتواه زينب مذ رأت رأس الحسين
فأنها قد تعرضت لمحاربات شرسة من المحاربين للشعائر الحسينية الذين حاولوا تضعيفها بشتى الطرق ولم يفلحوا.
ومن بين تلك المناقشات:
أ- من أين أتى المحمل والإجماع قائم بين الشيعة أن سبايا أهل البيت عليهم السلام كانوا على جمال ونوق بلا هوادج؟
والجواب: صحيح أن الجمال والنوق لم تكن لها هوادج ولكن كان لها أقتاب، والأقتاب هي محامل خشبية صغيرة لا تتجاوز سنام الجمل ليستعان بها للصعود على ظهر الجمل، أي انها محامل منقوصة ليس لها ستر، إذ تعمد بهذا المجرمون لتعذيبهن كما فعل عثمان بن عفان «لعنه الله» بأبي ذر «رضوان الله تعالى عليه».
والأدلة على وجود الأقتاب في مسير السبايا كثيرة، منها ما رواه السيد ابن طاووس: ”وأقام ابن سعد بقية يومه واليوم الثاني إلى زوال الشمس، ثم رحل بمن تخلف من عيال الحسين عليه السلام، وحمل نساءه (صلوات الله عليه) على أحلاس أقتاب الجمال، بغير وطاء ولا غطاء“. (اللهوف لابن طاووس ص170)
ومنها ما رُوي عن سهل بن سعد الشهرزوري في وصفه لما رأى:
”وإذا بنسوة على أقتاب الجمال بغير وطاء ولا ستر، وقائلة منهن تقول: وامحمداه! واعلياه! واحسناه! واحسيناه! لو رأيتم ما حلَّ بنا من الأعداء! يا رسول الله بناتك أسارى كأنهن بعض اليهود والنصارى! (...)
قال: فتعلّقتُ بقائمة المحمل وناديت بأعلى الصوت: السلام عليكم يا آل بيت محمد ورحمة الله وبركاته.
وقد عرفتُ أنها أم كلثوم بنت علي، فقالت: من أنت أيها الرجل الذي لم يسلّم علينا أحد غيرك مثل سلامك منذ قتل أخي وسيدي والحسين عليه السلام؟ فقلت لها: يا سيدتي أنا رجل من شهرزور، اسمي سهل، رأيت جدك محمد المصطفى صلى الله عليه وآله.
قالت: يا سهل! ألا ترى ما صُنع بنا؟! أما والله لو عشنا في زمان لم ير محمداً ما صنع بنا أهله بعض هذا! قُتل والله أخي وسيدي الحسين! وسبينا كما تُسبى العبيد والإماء! وحُملنا على الأقتاب بغير وطاء ولا ستر كما ترى“! (مدينة المعاجز للبحراني ج4 ص132)
ب- مسلم الجصاص هو عامل مستأجر ليجصص قصر ابن مرجانة فكيف تقبل روايته؟
وعن هذه المناقشة الثانية أجاب الشيخ:
أما أنه كيف نقبل رواية مسلم الجصاص مع أنه كان يجصّص قبر ابن مرجانة؛ فهذا من أطرف الإشكالات! لأن المقتل الذي نقرأه الآن عما جرى على أبي عبد الله الحسين (صلوات الله عليه) في كربلاء جلّه مرويٌّ عن حميد بن مسلم الأزدي وقد كان من جنود عمر بن سعد (لعنه الله) منخرطاً في جيشه!
إنما نقبل روايات هؤلاء - مع قطع النظر عما جاء في التاريخ من كونهم تابوا بعد ذلك وخرجوا مع المختار - من باب الاطمئنان إلى أن العدو لا يشهد على نفسه إلا بالصدق، ولا يُظهر عيوبه إلا وهو محق.
ولا يخفى أن قول أحدهم أنه كان حاضرًا في معسكر العدو، أو كان يجصّص قصر الطاغي، ومع ذلك هاله ما جرى على الحسين وأهل بيته وأصحابه (صلوات الله عليهم) ورواه بتفاصيله؛ مفهومه أنه يدين نفسه لتخاذله أو تقصيره، ولذا يُطمأن إلى ما رواه.
مثال ذلك ما لو شهد أحد الصهاينة اليوم الذين شاركوا في الحرب على غزة قائلاً: ”رأيت امرأة تحمل رضيعها، فأطلق عليها زميل لي النار حتى أرداها، وكان رضيعها قد سقط أرضًا، فجاءه زميل آخر لي وداس عليه برجله“. فإنّا في مثل هذه الحالة نقبل شهادة هذا الصهيوني مع أنه كافر معادي، لا لشيء إلا لوثوقنا بأن ما يرويه وينقله قد صدق فيه، لأنه لا مصلحة له في إدانة نفسه وقومه، وأن ما ذكره في شهادته نشأ من عدم تحمّله لبشاعة هذا المنظر الذي رآه. فكذلك الحال في مثل حميد بن مسلم ومسلم الجصاص وأمثالهما.
ج- كيف تصف السيدة زينب في أبياتها الواردة في هذه الرواية قلب الإمام الحسين بأنه قد صار صليبًا!؟
وعن هذه المناقشة المضحكة أجاب الشيخ:
لست أدري أأضحك على هذا الإشكال أم أبكي! فإن صاحب الإشكال توهّم أن قولها عليها السلام: ”يا أخي قلبك الشفيق علينا، ما له قد قسى وصار صليبا“ فيه تشبيه منها لقلب أخيها بالصليب الذي يُصلب عليه! ولم يدرِ هذا الجاهل أن الصليب هنا مأخوذ من (الصلابة) لا من (الصليب)! ومرادها أن القلب من قساوته صار صلبًا جامدًا.
وهذا عتاب قوامه البلاغة لتصوير فجاعة المصاب، وليس حقيقيًا، كما استخدم الله سبحانه أسلوب العتاب حين قال لنبيّه الأعظم صلى الله عليه وآله: ”عَفَا اللَّـهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ“ وأسلوب التهديد بقوله: ”لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ“ وأسلوب اللوم بقوله: ”وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّـهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ“ مع أن كل ذلك ليس حقيقيًا، فإن النبي (صلى الله عليه وآله) معصوم لا يخالف الله في شيء، فإذنه للمتخلفين كان بأمر الله تعالى، والشرك منه محال فلا يحتاج إلى تهديد، وهو لا يخشى إلا الله تعالى فلا يحتاج إلى لوم، غير أن هذا الأسلوب البلاغي يُستخدم أحيانـًا لتصوير عِظَمِ الأمر، من باب إياك أعني واسمعي يا جارة.
وهذا هو المقصد من معاتبة الحوراء (عليها السلام) أخاها - مع أنه قد استشهد - وكذا وصفها فؤاد السجاد (عليه السلام) بالمرعوب، كل ذلك يجري هذا المجرى في البلاغة. وقد سبقتها في ذلك أمها الزهراء (صلوات الله عليها) حين خاطبت بعلها أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) بقولها: ”يابن أبي طالب، اشتملت مشيمة الجنين، وقعدت حجرة الظنين، نقضت قادمة الأجدل، فخانك ريش الأعزل، هذا ابن أبي قحافة قد ابتزني نحيلة أبي وبليغة ابني، والله لقد أجد في ظلامتي، وألد في خصامي“.
وأضاف الشيخ الحبيب «حفظه الله» بعد ردّ هذه الشبهات الواهية ساخرًا:
”إني لأعجب من الخطباء السائرين في ركب النظام الإيراني والتيارات المنحرفة وأتباع حزب الدعوة وأمثاله من الأحزاب الضالة، أنهم يردّون رواية محمل السيدة زينب على المنابر، ثمّ في أيام ذكرى مسير السبايا يأتون على الحديث عن دخول نساء الحسين إلى الكوفة وكيف أن الناس أعطت الأطفال تمرًا فجاءت السيدة أم كلثوم وأخذته من أفواههم ورمت به وقالت: "الصدقة حرام علينا"؛ مع أنها نفسها رواية مسلم الجصاص، وبهذا لا يستحون من اظهار جهلهم وضحالة مستوياتهم العلمية بأن أخذوا بجزء من الرواية وتركوا جزءًا آخر منها، كمن آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض، إذ أنها ذات الرواية وبنفس المصدر ونفس السند وإثباتهم لرأسها هو إثبات لذيلها بالملازمة لأنها رواية واحدة“.
وأضاف سماحته أيضا.. أن إثبات استحباب الإدماء في مواساة الحسين لا ينحصر بروايات إدماء الأئمة المعصومين ومن يليهم، بل يكفي إثباته بالروايات التي تؤكد على استحباب الحجامة وهي روايات مستفيضة واردة عندنا وعند مخالفينا، إذ أنها تثبت باللغة المحكية أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» قد طبّر رأسه وأمر بالتطبير!
معللا قوله بأن التطبير هو أحد أنواع الحجامة التي تجرى على الرأس، وقد كان النبي الأعظم مواظبًا عليها ويسميها "المغيثة" أو "المنقذة" حيث جاء عن الإمام أبي عبد الله عليه السلام: الحجامة على الرأس على شبر من طرف الأنف وفتر ما بين الحاجبين.
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله يسميها: المنقذة.
وفي حديث آخر: كان رسول الله صلى الله عليه وآله يحتجم على رأسه ويسميها: مغيثة أو منقذة. (وسائل الشيعة لتحصيل مسائل الشريعة/ ج17/ ص114)
ومن مصادر العدو وردت روايات في حجامة الرأس منها:
1- عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الحجامة في الرأس دواء من الجنون والجذام والبرص والنعاس والأضراس"، وكان يسميها منقذة. (المعجم الأوسط للطبراني/ ج5/ ص16/ح4763).
2- عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلّم كان يحتجم في رأسه ويسميها أم مغيث. (المعجم الأوسط للطبراني/ح8028)
3- عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم: الحجامة في الرأس شفاء من سبع، إذا ما نوى صاحبها، من الجنون والجذام والبرص والنعاس ووجع الضرس والصداع وظلمة يجدها في عينيه. (المعجم الكبير للطبراني/ح10758)
4- عن بكير بن الأشج قال: بلغني أن الأقرع بن حابس دخل على النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم وهو يحتجم في القمحدوة فقال: يا ابن أب كبشة لما احتجمت وسط رأسك؟ فقال رسول الله: أن فيه شفاء من وجع الرأس والأضراس والنعاس والمرض؛ وأشك أنه قال: وفي الجنون. (الطبقات الكبرى لابن سعد/ ح1357)
وعليه فليس من حق المخالف أن يأتي ويُشكل على الشيعة بممارسة التطبير واتهامهم بالتخلف والجنون، وعليهم أن يجيبوه بأنه هو المجنون لأنه لا يطبّر، وبأن عليه أن يذهب ليعمل بسنة رسول الله لكي يشفى من الجنون، جنون حب عائشة مثلا، وعليه أن يقرأ ما في كتبه من روايات إدماء رسول الله لهذه المنطقة من الرأس.
نعم إن إشكال المخالف هو أن هذه الشعيرة تمارس يوم العاشر وباسم علي والحسين، وإلا لما كان يأتي ليستشكل عليها.
ومن الناحية الطبية ردّ الشيخ على الشبهة الثالثة التي يطرحها المناوئون:
• التطبير فيه ضرر بالبدن:
فأفاد الشيخ الحبيب.. أن الأطباء ينصحون بحجامة الرأس لأن من يواظبون على ذلك لا تصيبهم الجلطة الدماغية، والأمر محسوس إذ يشارك في موكب التطبير من هم متقدمين في العمر ويشعرون بعد ذلك بالراحة والنشاط، لأنه بالأساس حجامة تـُخرج الدم الفاسد من الرأس وتجدد الدورة الدموية وتطيل عمر الإنسان، فالتطبير بالأصل مفيد وليس مضرًا كيف لا وهو عمل بالسنة النبوية، فما هو الإشكال من الأتيان به مع نية المواساة للحسين عليه السلام وإضافة استحباب إلى استحباب؟
وحول الشبهة الرابعة التي يطرحها المناوئون ضد شعائر الإدماء والتي إجمالها..
• أن الإدماء فيه تنفير وتوهين للعقيدة والدين وبُعد عن التحضر:
ردّ الشيخ الحبيب.. أن المعادون لشعائر الإدماء وقعوا في خطأ كبير حينما جعلوا الحضارة الغربية – التي هي بمقياسنا حضارة جاهلية– هي الحاكمة علينا، فمشكلتهم هي عقدة التصاغر والحقارة أمام الغير، إذ ما قيمة حضارة تبيح الشذوذ حتى تقيّم ممارساتنا وشعائرنا؟
أن التقييم الحضاري لهذه الشعائر يؤخذ من العلماء الأكاديميين، و لو كان الشخص الغربي العادي يستبشع هذه الممارسات فهذا ليس موجب للتخلي عنها، لأنه إذا فتحنا هذا الباب فعلينا أن نتخلى عن كل شيء من الألف إلى الياء بما في ذلك الحجاب، وحتى اللباس الذي تروني ألبسه، والحج، والختان، وإلى غير ذلك، لذا لا يمكننا إخضاع الدين للمزاج بدلا من إخضاعه للمعصومين عليهم السلام وعرف المتشرعة الذي قبل بمواساة الحسين بالدماء خلفـًا عن سلف.
وإذا أردنا أن نرى تقييم هذه الشعائر ممن يمكن التعويل عليه، علينا مراجعة المفكرين غير المسلمين من الدارسين لعلم الاجتماع والذين درسوا هذه الشعائر بعمق واطلعوا على فلسفتها، فحينها سنجدهم يمتدحون هذه الممارسات ويعتبرونها سر تقوية هذا الاتجاه الديني البشري، وقد صنعنا ذلك ذات مرة مع دكتور نصراني لبناني وقد كنت حاضرًا شخصيا في هامش لقاء أجرته مجلة المنبر مع هذا الدكتور المتخصص في علم الاجتماع وتبادلنا معه أطراف الحوار فوجدناه يحترم الشعائر الحسينية ولا يعتبرها خرافة بل يعتبر وجودها يعطي نظرة إيجابية لمحييها في عيون العالم.
وبخصوص نظرته لشعيرة التطبير أجاب هذا الدكتور من وجهة النظر الأكاديمية: ”أن التطبير نموذج من نماذج استشعار الألم وإيذاء الجسد للوصول إلى حالة الاستذكار الكامل، والتطبير من وجهة نظري هو الشعيره الأكثر تحريكا للمشاعر والأحاسيس“.
وتأكيدًا على كلام الدكتور بولس جوزيف الحلو الذي نال شهادة الدكتوراه من جامعة (الروح القدس) في لبنان، استعرض الشيخ رسالة أحد الأخوة المؤمنين من البحرين ممن جربوا أداء شعيرة التطبير لأول مرة فأرسلوا لتأييد قول الشيخ الحبيب ببيان تجربتهم وتشوّقهم للاستمرارية في ممارسة هذه الشعيرة الروحانية.
وكان نص الرسالة كالتالي:
”اللهم صل على محمد وآله الطيبين الطاهرين المنتجبين وبعد، أقدم السلام والتحية لسماحة الشيخ ولكل القائمين في خدمة هيئة خدام المهدي عليه السلام، وأحب أن أنبئكم بأنه ببركة جهودكم وإجاباتكم ومحاضراتكم التي نزعت الشك مني وأحللت اليقين توفقت لأداء شعيرة التطبير لأول مرة في حياتي، وقد تبين لي صدق كلامكم فمن أول ضربة بالسيف نزلت على رأسي إستشعرت ألم الحسين عليه وارتسمت واقعة الطف في مخيلتي وتخيلت مقدار الجراح والضربات التي تحملها الإمام الحسين والتي بلغت الآلاف بأبي هو وأمي، وقد تغيرت نظرتي إلى الدماء التي كنت أقشعر حين أراها على رؤوس المطبرين وبدأت أسعى بأن أجعل الدماء تسيل على وجهي والكفن الذي ألبسه وكلما قدمت دماء اتحسر بالنظر إلى من تسيل منه دماء اكثر مني فتركت دمائي على وجهي ولم أمسحها إلا في نهاية الموكب ولن أنسى هذه الذكرى طوال حياتي وإن شاء الله أوفق للتطبير في يوم الأربعين، شاكر لكم كل جهودكم، ويؤلمنا كثيراً أن لا نرى جديداً في موقعكم في هذه الفترة الأخيرة. تحياتي لكم.. موالي من البحرين“
وقد علّق عليها الشيخ بتحدي كل إنسان يعمل بنصيحته بأن يطبّر لمرة واحدة ويرى كيف أنه في المرة الأولى سيتذكر ألم الحسين ويشعر به بنفسه ويتصوّر نفسه واقفـًا في معركة الطف، مسترسلاً سماحته أن لذة التطبير للمرة الأولى ليست كالمرات الأخرى وسيرى المطبّر فيما بعد أن طعم التطبير في كربلاء المقدسة وفي صحن الحسين يختلف أيضا عن التطبير في الأماكن الأخرى.
وبخصوص الشبهة الأخيرة الدائرة حول شعيرة الإدماء وهي التشكيك في جدوى الشعيرة وتأثيرها في الواقع العام..
أشار الشيخ إلى ما كتبه أحد كبار علماء أهل الخلاف الذين ركبوا سفينة النجاة بموالاة آل محمد عليهم السلام، وهو عالم سوري شامي معروف اسمه الشيخ محمد مرعي الأمين الأنطاكي الذي كان مفتي حلب، في كتابه
(لماذا اخترت مذهب الشيعة مذهب أهل البيت عليهم السلام/ ص471) في تفصيله لواقعة مناظرة جرت بينه وبين علماء أهل الخلاف سنة 1374 هجرية، وقد أنكروا على الشيعة ممارستهم لشعيرة الإدماء وكافة الشعائر الحسينية، فدافع الشيخ الأنطاكي «رحمه الله» عن تلك الشعائر دفاعًا مستميتا بيّن فيه أهميتها، وأكد في معرض حديثه أن ما قام به الشيعة هو عين الصواب ولو ما قاموا بما فعلوا لنكرت عاشوراء كما نكر الغدير.
وأردف سماحته.. أن من جملة الأهداف المهمة لشعيرة التطبير رفع الخوف والتدريب النفسي على أجواء المعركة المنتظرة في صف صاحب العصر والزمان، أي أنها تأخذ حكم المناورات العسكرية، بالإضافة إلى أن هذه الشعيرة تسهم بالأثر والنتيجة في حفظ الدين.
وختم الشيخ الحبيب «حفظه الله» هذه الكلمة المطوّلة بما يقطع ألسنة الذين يشنون حرب الفتاوى على هذه الشعيرة، وذلك بنقل ما جاء في أثر أحد مراجع الشيعة الأجلاء في النجف الأشرف من الذين نالوا شرف اللقاء بالإمام المنتظر «صلوات الله عليه» واستفتاه في مسألة التطبير وحكم بما قاله الإمام «صلوات الله عليه» وهو جواز الإدماء وغيره من الشعائر الحسينية التي المستفسر عن حكمها. (بيان الأئمة عليهم السلام/ ج2/ ص477)
ثم نصح سماحته المؤمنين بالتوجه في يوم العاشر من محرم إلى أقرب موكب للتطبير وإسالة الدماء، واستباق ذلك بزيارة عاشوراء، وعدم الالتفات إلى المثبطين وترهاتهم، والتوكل على الله تعالى ثم مواساة الإمام سيّد الشهداء كما واساه من قبل ذلك الأنبياء والرسل.