5 محرم الحرام 1439
كثيرًا ما يلعب أهل الزيغ هذه اللعبة؛ لعبة الخلط بين المفاهيم. فالحرص على الدين يسمّونه تزمُّتًا ورجعيةً مثلًا حتى يكون هو المفهوم السائد فلا يقترب من التديُّن أحد، والساعي إلى إصلاح المجتمع وتنقيته يرمونه بابتغاء الفتنة وإحداث الانقسام حتى لا يستجيب له أحد. وهكذا تتعدد صور وأشكال لعبة الخلط هذه التي لا تنطلي إلا على المغفلين والسذج.
ولقد كان ممن لعب هذه اللعبة بدهاء؛ تلك الحميراء الخبيثة، فلقد اتهمت سيد الأوصياء (صلوات الله عليه) بأنه متكبر! متجبر! قد أخذ الحكم غصبًا وابتزازًا من غير مشورة من المسلمين!
قالت لعنها الله لابن أختها ابن الزبير: «رجعتُ إلى مكة لأُعْلِمَ الناس ما فُعِلَ بعثمان إمامهم، وأنه أعطاهم التوبة فقتلوه تقيًّا نقيًّا بَرِيًّا، فيروْن في ذلك رأيهم، ويثورون على من ابتزَّهم أمرهم وغصبهم أمرهم من غير مشورة من المسلمين ولا مؤامرة، بتكبُّر وتجبُّر، ويظن أن الناس يرون له حقا كما كانوا يرونه لغيره. هيهات هيهات! يظن ابن أبي طالب يكون في هذا الامر كابن أبي قحافة؟ لا والله ومَن في الناس مثل ابن أبي قحافة؟ تخضع إليه الرقاب ويُلقى إليه المقاد». (الجمل للمفيد ص122)
كانت صرامة ابن أبي طالب (صلوات الله عليهما) في دين الله هي التي ألَّبَت عليه المنافقين والمنافقات وطلاب الدنيا. لم يكن (عليه السلام) يتهاون في شيء من مبادئه، فصار عند هؤلاء (متكبِّرًا متجبِّرًا)! لا لشيء سوى أنه لم يكن يستجيب لهم في مطامعهم ورغباتهم.
كانت الحميراء ترغب في أن تكون (السيدة الأولى) تغوص في بحر الشهوات بلا حسيب أو رقيب، وكانت عين طلحة على البصرة يحكمها، وكذا كانت عين الزبير على الكوفة يحكمها، أما معاوية فأراد الاحتفاظ بالشام مملكة خالصة له ولقومه بني أمية. فلو أن الإمام (عليه السلام) استجاب لهؤلاء الأدنياء لما رموه بالتكبر والتجبر، ولما تعمدوا رميه عند العامة بما هو بريء منه، حيث لعبوا لعبة خلط المفاهيم، فصوّروا الصَّرامة تكبُّرا.
ولقد كان أبو عبد الله الحسين ملتزمًا بمبادئ أبيه عليهما السلام، ماضيًا على منهاجه القدسي، صارمًا في مواجهة أهل الباطل وذوي المطامع، مُظهرًا اعتزازه بدينه وطريقته، فلا عجب في أن يُتَّهَم بمثل ما اتُّهِمَ به أبوه من الكِبْر، فإن أهل الزيغ وضِعاف الإيمان ومَن ينقاد إليهم من الجهلة والأميين؛ إذا ما رأوا امرئًا هذه شمائله؛ لا يخضغ للضغوط؛ ولا يستجيب للمطامع، لا تأخذه في الله هوادة؛ ولا يقبل في دينه بالحلول الوسط؛ لقالوا عنه إنه متكبِّر!
تُرى؛ بِمَ رَدَّ سيد شباب أهل الجنة على هذه التهمة؟
يُروى أن رجلًا جاء إليه فقال: «إن فيك كِبْرًا! فقال: كلا؛ الكِبْرُ لله وحده، ولكن فِيَّ عِزَّة، قال الله عزوجل: وَلِلَّـهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ». (تأويل الآيات للاسترابادي ج2 ص695، ويُروى عن الحسن عليه السلام أيضا، وأيًّا كان فهما نور واحد)
إن هذه التي يقول عنها أهل الزيغ أنها (كِبْرٌ) في المؤمن؛ هي في حقيقتها (عِزَّةٌ). ولكنها لعبة خلط المفاهيم التي تُلعَبُ هنا. ولو أن الناس استَسَدُّوا عقولهم لأبصروا هذه الحقيقة، ولأدركوا أن الأمر معكوس، فالذين يتهمون أولياء الله بالتكبر لصرامتهم في الحق؛ هم المتكبِّرون أصلًا برفضهم إياه! فلقد قال النبي الأعظم صلى الله عليه وآله: «الكِبْرُ أن تترك الحق وتتجاوزه إلى غيره». (بحار الأنوار ج77 ص74)
لم يكن سيد الشهداء (عليه السلام) متكبِّرًا - حاشاه - بل كانوا هم المتكبرين. تلك سيرته (صلوات الله عليه) تشهد له بأنه كان أبعد الناس عن التكبر. لقد كان يجالس المساكين متواضِعًا يأكل معهم كسيرات الخبز تاليًا قوله تعالى: «إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ»، ثم ما يلبث أن يدعوهم إلى بيته فيغدق عليهم ويُنعم ويتطوَّل. (تفسير العياشي ج2 ص257)
هكذا كان يعامل الحسين (عليه السلام) الضعفاء والمساكين فيتواضع لهم، أما أولئك الذين أخذتهم العزة بالإثم فتكبَّروا على الحق وأهله؛ فكان (عليه السلام) يعاملهم بعزة تكسر كبرياءهم المصطنع. ولقد قال أبوه أمير المؤمنين (عليه السلام) من قبل: «التكبر على المتكبرين هو التواضع بعينه»! (شرح النهج ج20 ص298)
هؤلاء المتكبرون هم الذين قتلوا سيد الشهداء (صلوات الله عليه) بعدما رفض أن يعطيهم بيده إعطاء الذليل، وقد سمَّاهم متكبرين إذ تكبروا على الحق وإمامه وأرادوا منه الخضوع، فكان (صلوات الله عليه) يستعيذ بالله منهم يوم الطف. لقد قالها مدويَّةً تشع رفضًا وإباءً وعزةً: «لا والله؛ لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقر إقرار العبيد. عباد الله! إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ، أعوذ بربي وربكم من كل متكبِّرٍ لا يؤمن بيوم الحساب». (الإرشاد ج2 ص98)
إن الرافضة الأبرار الذين يمضون على منهاج أبي الأحرار (صلوات الله عليه) ينبغي أن يتحلوا بأخلاقه ما أمكنهم، ومنها هذه الموازنة ما بين التواضع لمن يستحق التواضع له؛ والتكبر على من يستحق التكبر عليه، أو قُل هي العزة التي يظهرها المؤمن اعتزازًا بدينه وثباتًا على منهجه. أما أولئك الذين يزعمون أن الرافضة متكبرون؛ فليُعلَم أن التكبر منهم وإليهم يعود.
.. عظم الله أجورنا وأجوركم.