12 محرم الحرام 1438
إن مما يستشكل به بعض الأعداء والمحسوبون على التشيع، فيما يستشكلون به على الشعائر الحسينية المقدسة وعلى رأسها شعيرة التطبير، هو قولهم إن أئمة أهل البيت صلوات الله عليهم اكتفوا بالبكاء على الحسين عليه السلام فقط، فلا طبروا ولا طيّنوا وجوههم ولا ثيابهم ولا مشوا على الجمر ولا ضربوا زنجيل ولا حتى لطموا على صدورهم.
وجوابا على هؤلاء المغفلين المتغافلين هو أنه على فرض أن هذه الشعائر لم يقم بها المعصوم صلوات الله عليه وأنه اكتفى بشعيرة البكاء على سيد الشهداء عليه السلام في تلك الظروف الصعبة والحساسة من تضييق الخناق على الائمة الأطهار عليهم السلام وأتباعهم؛ فيبقى بكاء الإمام المعصوم صلوات الله عليه لالتصاقه بذاته وروحه الشريفتين شعيرة صارخة، لا يقوى عليها غيره وإن جهد.
فقد جاء عَنْ مَصْقَلَةَ الطَّحَّانِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام يَقُولُ: لَمَّا قُتِلَ الْحُسَيْنُ علیه السلام أَقَامَتِ امْرَأَتُهُ الْكَلْبِيَّةُ عَلَيْهِ مَأْتَماً، وَبَكَتْ وَبَكَيْنَ النِّسَاءُ وَالْخَدَمُ حَتَّى جَفَّتْ دُمُوعُهُنَّ وَذَهَبَتْ، فَبَيْنَا هِيَ كَذَلِكَ إِذَا رَأَتْ جَارِيَةً مِنْ جَوَارِيهَا تَبْكِي وَدُمُوعُهَا تَسِيلُ فَدَعَتْهَا فَقَالَتْ لَهَا: مَا لَكِ أَنْتِ مِنْ بَيْنِنَا تَسِيلُ دُمُوعُكِ؟ قَالَتْ: إِنِّي لَمَّا أَصَابَنِي الْجَهْدُ شَرِبْتُ شَرْبَةَ سَوِيقٍ. قَالَ: فَأَمَرَتْ بِالطَّعَامِ وَالْأَسْوِقَةِ فَأَكَلَتْ وَشَرِبَتْ وَأَطْعَمَتْ وَسَقَتْ وَقَالَتْ: إِنَّمَا نُرِيدُ بِذَلِكِ أَنْ نَتَقَوَّى عَلَى الْبُكَاءِ عَلَى الْحُسَيْنِ علیه السلام. (الكافي، ج 1، ص 466)
يتبين إذن من خلال هذه الرواية الشريفة أن امرأة الإمام عليه السلام (ولعلها الرباب عليها السلام) جفت دموعها لكثرة بكائها على سيدها وزوجها الحسين صلوات الله عليه، فعند ذلك طلبت أن يصنعوا لها السويق ليدر عليها دمعها ويستمر جريانه مع طول بكائها وجزعها عليه. ولهذا عللت أمرها بصنع السويق، بقولها نريد أن نتقوى على البكاء على الحسين عليه السلام. فإن كثرة البكاء ومواصلته بلا انقطاع وعلى نفس الوتيرة بلا استعانة بمؤثرات خارجية كغذاء خاص مثلا مدر للدمع، هو أمر مجهد للعيون يؤدي بعد فترة إلى جفاف مدمعها. غير أن المعصوم صلوات الله عليه استثناء لا يجاريه أحد من المخلوقين، لأنه يقدر على البكاء الذي لا يقوى عليه غيره.
هذا البكاء الذي تجري خلاله وعلى كثرته الدموع بلا انقطاع إلى حد إدماء العين وهي أثمن جارحة؛ هو بحد ذاته بكاء معجز. فقد كان الإمام زين العابدين صلوات الله عليه مستمر البكاء حزنا وجزعا على مصاب أبيه الحسين عليه السلام، يصل فيه الليل بالنهار والنهار بالليل دون كلل ولا ملل.
هذا البكاء الذي تتقرح له عيناه الشريفتان صلوات الله عليه الى حد الادماء مختص به كإمام معصوم دون غيره وذلك من ناحية قوته البدنية المتعلقة بذاته الشريفة وقوته النورانية المتعلقة بروحه الرقيقة صلوات الله عليه وقلبه الطاهر، فقوة المعصوم صلوات الله عليه البدنية وإن كانت بالمعايير الدنيوية فهي لا يرقى إليها بشر.
فمن غير المعصوم صلوات الله عليه يتمكن على سبيل المثال لا الحصر من أداء سجدة الشكر من طلوع الفجر إلى شروق الشمس بلا انقطاع دون تعب أو نصب؟ أو من غيره يتمكن من الذهاب إلى الحج مشيا على الأقدام وأحيانا حافيا دونما انتعال فتتفطر لذلك وتتورم أقدامه الشريفة؟ أو من يقوى على الصوم بالنهار وإحياء الليل جله بالصلاة الدهر كله؟
ومن غيره صلوات الله عليه يمتلك طهارته التي بدونها لا يمكن للقلوب أن تكون دائمة الرقة وبالتالي العيون دائمة الدمعة؟ وأما قوته الروحية فهي لا تحتاج منا إلى برهنة لإثباتها. فأنى لنا بالبكاء الذي يجعل إماما معصوما كالمولى زين العابدين صلوات الله عليه يعد من البكائين الخمسة، بل على رأسهم بعد جدته الصديقة الكبرى فاطمة الزهراء صلوات الله عليها ولعنة الله على اعدائها والتي بكت على أبيها صلى الله عليه وآله ليل نهار إلى يوم استشهادها سلام الله عليها.
بل أنى لنا بالبكاء الذي تكاد تتلف له روحه بأبي وأمي حزنا وجزعا على تلك الأرواح الطاهرة المختلسة والأجساد المسلبة المغسلة بدمائها المطروحة على رمضاء كربلاء بلا وطاء ولا غطاء كما جاء في العديد من الروايات الشريفة.
وقد كان مما أجاب به الإمام السجاد صلوات الله عليه لما قيل له: إنك لتبكي دهرك فلو قتلت نفسك لما زدت على هذا... فأجاب الإمام عليه السلام: نفسي قتلتها وعليها أبكي.
ومما قد يفهم من رد الإمام علي زين العابدين عليه السلام على من أشفق عليه من كثرة بكائه هو لعله أن مصابه بأبيه الحسين عليه السلام وأهل بيته قد بلغ حداً يصح معه أن يقال لمثله: قد قتل نفسه، فإذا أنكروا عليه بكاءه المتواصل فهو يخبرهم بأنه قد بلغ منتهى الحزن ومن بلغ هذا الحد لا غرابة في أن يقال فيه قتل نفسه. ومع ذلك لم ينثني الإمام زين العابدين صلوات الله عليه عن مواصلة البكاء حتى استشهاده عليه السلام.
هكذا بكاء للإمام صلوات الله عليه صار في شخصه وبحد ذاته أقوى شعيرة. وهو بالقياس إلى قدراتنا المحدودة معجز لنا على جميع الأصعدة فالإمام عليه السلام قوته في ذاته ووجوده وهو مستغن عن أي مؤثرات خارجية لأنه نبع الطاقة وعين الحياة ومصدر الوهج والمعين الذي لا ينضب.
لذا ولأننا نحتاج إلى قوة الرسالة لترسيخ القضية الحسينية في وجدان الأجيال وبقائها متوهجة في القلوب على مر الأزمان، صار لزاما علينا من ناحية هذا القصور البدني والروحي والنفسي أن نوجد شعائر قوية صارخة ترقى إلى تحقيق نفس التأثير أو لا أقل تحقيق تأثير يطمح لذاك الذي يتركه بكاء المعصوم صلوات الله عليه في النفوس ويسطره عريضا في سجل التاريخ، فيتحقق به الهدف المنشود من إقامة شعائر الله وهو التذكير بأيام الله، ولا يوم كيومك يا أبا عبدالله.
وفي نفس الوقت تحريك المشاعر وجذبها نحو معاني الثورة الحسينية المقدسة بنبذ الظلم وفضح الظالمين ونصرة الدين وإن كلّف ذلك إزهاق الأرواح في سبيل إحقاق الحق وإزهاق الباطل، فلا قيمة لدمائنا مقابل إقامة هذه القيم الرفيعة.
لذا إن فتشنا في كل الشعائر الحسينية المقدسة التي تقام في موسم الأحزان فلن نجد أقوى ولا أصدق من شعيرة الإدماء المقدس، ويبقى التطبير أصدق مظاهر الحزن ومصاديق الهلع و الجزع على مصابنا (نحن غير المعصومين) بالذبيح الظامي على شط الفرات المولى سيد الشهداء أبي عبد الله الحسين صلوات الله عليه ولعنة الله على قاتليه؛ أبي بكر وعمر ومن شايعهم إلى يوم القيامة بحرمة محمد وآله الطاهرين صلوات الله عليهم ولعنة الله على أعدائهم.
وسنظل يوم العاشر على العهد نبكي هاماتنا دما بحد الظبا حزنا وأسى وجزعا على الوتر الموتور ثار الله وابن ثاره سيدنا الحسين عليه السلام ونحن نصرخ بأعلى الأصوات دماؤنا سيدي تفدي دماك. فذرونا ورؤوسنا يا من تعيبون علينا، نهديها فداء لحب سيد الشهداء صلوات الله عليه، ولكم ذواتكم ولنا ذواتنا.
بقلم: المتشيعة أم محسن