لم تتعرض عقيدةٌ إلى مثل ما تعرضت له عقيدة التشيع من محاربة، ولم يتعرض أهل ملّة إلى مثل ما تعرض له أهل التشيع من اضطهاد. لقد كان الإنسان الشيعي في صراع دائم مع أنظمة الحكم وقوى التسلط من أجل البقاء، إذ هو يمثّل بعقيدته وثقافته مكمن تهديد جدي لتلك الأنظمة والقوى التي لم تجد بدا من تصفيته والقضاء عليه، لأن التشيع بما هو عنوان للحرية والعزة والكرامة، معولٌ يهدم عروش الطغيان والاستبداد والظلم.
ومنذ أن استشهد رسول الله الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، والإنسان الشيعي تقصده حراب السلاطين وسهام المتجبرين. إنها معركة لم تتوقف رحاها، وكان في مقدمة ضحاياها أئمة أهل بيت النبوة صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. وهكذا تكونت هذه المعادلة المعروفة، وهي أن التشيع على نقيض من الظلم، وعلى التحام مع المظلومية. ولأن المعادلة جارية على هذا النحو؛ كان من الطبيعي أن يبقى الإنسان الشيعي مضطهدا مظلوما أينما حلّ وارتحل، وأن يبقى الشيعة في دائرة الاتهام والملاحقة والتشريد والتنكيل.
ولربما يعجب المرء كيف أن الشيعة رغم كل ما قاسوه وتجرعوه من آلام ومصائب بلغت حد إزهاق الأرواح، ورغم كل هذا العداء الذي ووجهوا به، ورغم كل هذه المحاربة التي جوبهوا بها، فإنهم تمكنوا من البقاء حتى يومنا هذا، في حين أن أصحاب ملل أخرى ومذاهب شتى لم يعد لهم أي أثر اليوم رغم أن ما وقع عليهم من السلطات والمتسلطين لا يعادل عشر معشار ما وقع على الشيعة. ولربما يزداد التعجب إذا عُلِم بأن التشيع كان يتوسع يوما بعد يوم في شتى الأنحاء، حتى أضحى عقيدة السواد الأعظم في بقاع عدّة من هذا الوطن الإسلامي، وحتى أصبح عدد معتنقيه يوازي نصف نفوس هذه الأمة الإسلامية، كما صرح بذلك الرئيس المصري السابق محمد أنور السادات إبان رئاسته لمنظمة المؤتمر الإسلامي.
لا شك أن بقاء راية التشيع خفاقة لم يكن ليأتي من فراغ، بل إنه جاء إثر سلسلة من التضحيات مثلت أروع قيم الصمود والمقاومة، دون أن نغفل بالطبع الإمداد الإلهي وفيوضات الأئمة الأطهار عليهم الصلاة والسلام، ورحمتهم التي شملت كل من التجأ إليهم. وهذا البقاء هو بحد ذاته مفخرة من مفاخر الشيعة، إذ ليس هنالك من تمكن من مقارعة الباطل ومنازلة الشر ومعاركة الظلم كما كان أمرهم طوال التاريخ، الذي لم تخلُ أية حقبة من حقبه من ثورة شيعية هنا أو انتفاضة علوية هناك، حتى غدا التشيع بشكل عام شعارا لرفض الظلم وبات الشيعة يوصمون بـ (الرافضة) لأجل مواقفهم في مناهضة المتجبرين.
وطوال قرون؛ بقيت الحال على ما هي عليه، فالتشيع في زاوية الاتهام، والإنسان الشيعي إما مقتول أو مسجون أو متخفٍ أو لاجئ من جور الجائرين وكيد الكائدين، ومع كل هذا فإن الشيعة تمسكوا بولايتهم لأئمتهم عليهم السلام، وثبتوا على الصراط المستقيم غير عابئين بالحملة الظالمة الشرسة التي تقصدهم ليل نهار. ومع سقوط نظام الخلافة غير الشرعية، وظهور الدويلات المتناثرة هنا وهناك، قلّت شدة الوطء على الشيعة، وأدى ذلك - طبيعيا - لأن يتوسع نشاطهم بعد زوال كثير من القيود التي كانت تكبل حريتهم، فجاهدوا في سبيل تعميم الولاية ورفع الراية، وانطلقوا لتبصير الناس بالعقيدة الحقة والسبيل الأقوم. وهكذا انتشر التشيع في الآفاق وواصل نموه باطراد ملحوظ، عندما أقبلت أقوام على اعتناقه بدافع اكتشافها أن الحق ليس إلا في آل الرسول عليهم الصلاة والسلام.
وليس من قبيل المبالغة القول بأن التشيع كأيديولوجية يشكل الجبهة الوحيدة المؤهلة لصد زحف التيارات الفكرية الإلحادية التي نمت في الآونة الأخيرة بشكل سريع نظرا لما وفرته لها أرضية العولمة من رقعة تقنية غير محدودة استطاعت تلك التيارات النفاذ منها إلى مختلف البيئات الثقافية والاجتماعية في العالم. بل يمكن لنا أن نجزم بأن التشيع لو لاقى من حَمَلته اهتماما وجهدا مضاعفا لتمكن من التغلغل في أوساط مجتمعات الغرب والشرق وهداية أبنائها إلى نور محمد وآله عليهم السلام. ذلك لأن التشيع يمتلك مقومات حضارية لا تتواجد في أية أطروحة عقائدية أو فكرية أخرى، ولأنه يرتكز على مفاهيم تتوافق مع الفطرة البشرية السليمة، ولأنه يقدم مشروعا تكامليا لإدارة عالم هو أقرب ما يكون إلى نموذج العالم الفاضل المتسم بقيم الإيمان والحرية والرفاه والسلام.
ولعل ما يرفد حقيقة أن التشيع سيلقى تجاوبا كبيرا في حال أتقن رجاله ترويجه، أن إحدى أهم أدبياته - كما أسلفنا - هو الدفاع عن المظلومين والمحرومين والمضطهدين والمغبونين أيا كانت مشاربهم، وهو ما يجعله قريبا جدا من وجدان الإنسان في هذا العصر الذي تئن فيه البشرية من كثرة الظلم والاستبداد والعبودية، وتتطلع فيه إلى استنشاق هواء الحرية والعدالة والمساواة.
أما الطريق التي نراها موصلة لتلك الغاية، فإنها تعتمد على العودة لمواصلة العمل التبليغي والتوعوي الذي هو دأب الشيعة. والخطوة الأولى في هذا الحقل تكمن في تأسيس منظمة إسلامية إمامية عالمية، تضع على عاتقها هدف إنهاض الأمة عبر زيادة وعيها وتنمية قدراتها وتنظيم كوادرها، فمثل هذه المنظمة حري بها أن تحقق ما نصبو إليه، ذلك لأن أساس العمل الناجح المؤتي لثماره هو التنظيم، كما يقول مولى الموحدين أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه: (.. ونظم أمركم). وتشكيل هذه المنظمة كفيل باستقطاب البشرية إلى دين الله تعالى، بعد إذ يتم إنقاذ من يدينون به الآن من جهلهم وتخلفهم.
وليس في وسعنا هنا أن نورد تصوراتنا لماهية هذه المنظمة، أو بيان ما يجب أن تتسم به من مرتكزات وبنى علمية وعملية، ذلك لأن بيانا كهذا بحاجة إلى أكثر من مقام ومقال، غير أننا نحمل في جعبتنا أطروحة قد تكون غير حاضرة في بقية الدعوات المماثلة لتأسيس مثل هذه المنظمة، وهي إحدى أطروحات الإمام الشيرازي دام ظله. إن سماحته يرى أن ينطلق مثل هذه المنظمة من الخارج لا الداخل، أي من الغرب لا من بلادنا الإسلامية، وذلك حتى نتحاشى ما لا يزال باقيا من قيود وحواجز مفروضة من قبل الحكام الذين صيّروا بلداننا هنا سجنا كبيرا! ولأن العالم الغربي بما يوفره من حريات نسبية يتيح مجالا واسعا للتحرك، ويترك صدى كبيرا للعمل، فاليوم بات مناط هذه الكرة الأرضية بيد الغرب، وكما يقال فإنه لو عطس رجل في الغرب لأصيب من في الأرض كلهم بالزكام!
يقول سماحته في المجلد رقم 150 من موسوعته الفقهية الكبرى، وهو كتاب (الفقه - طريق النجاة): (المسلمون في مختلف بلاد الغرب وفي الهند وبعض مناطق الهند الصينية وأفريقيا وما إليها؛ قوة هائلة يمكن استخراجها لأجل تحرير وتوحيد بلاد الإسلام وتطبيق أحكام الله سبحانه وتعالى فيها. فإن بلاد الإسلام ابتليت باستعمار الغرب والشرق من ناحية، وبالحكام المستبدين - سواء كانوا مربوطين بالاستعمار أو غير مربوطين - من ناحية أخرى. والإنسان المكبل لا يتمكن من فك القيد عن نفسه، وإنما الحر يتمكن من فك قيده. إن تلك البلاد التي ذكرناها ليست حرة بالمعنى الإسلامي، بل فيها شيء من الحرية، وهذا الشيء القليل يمكن الاستفادة منه لتحرير بلاد الإسلام، وعليه فاللازم على من يحب نجاة المسلمين من العاملين أن ينظم أولئك المسلمين في الغرب وفي تلك البلاد، ويوقظ فيهم روح الخدمة والتحرير (...) وإذا تمكن العاملون في هذا الحقل التنظيمي من إيقاظ هذه الروح في مسلمي الغرب حتى يعرفوا أن هذا دورهم أولا، ويعرفوا أن قوة مسلمي العالم قوتهم ثانيا، تمكنوا من التحرك في رقعتهم بما لا يحتاج إلى أكثر من خمس سنوات على بعض الفروض).
فعلا.. إن المسلمين في الغرب وفي تلك البلاد التي ذكرها مرجع الأمة، قوة هائلة لا يستهان بها، وهي تعيش في أجواء أكثر صحية من أجوائنا، فلو أننا عملنا على إيقاظهم واستنهاضهم، ودفعهم إلى تشكيل هذه المنظمة العالمية، فسيكون حصادنا أكبر بكثير من حصاد ما نقوم به في الداخل. لقد أصبح المؤثر الخارجي على بلادنا واقعا لا يمكن الفرار منه، ولا يمكن تغييره إلا باستبدال هذا المؤثر، فبدلا من أن تُضخ الأفكار الفاسدة إلى بلادنا من تلك البلاد، علينا أن نفكر فعليا في ضخ الأفكار الإسلامية الإمامية إلى بلادنا منها. وليس هذا صعبا، فنحن نرى أن كثيرا من شبابنا الذين يتوجهون إلى الغرب للدراسة في جامعاته وأكاديمياته، بدلا من أن يتأثروا بمظاهر الفساد هنالك، تراهم يؤثرون في ذلك المجتمع نفسه ولا يتأثرون به، ويعود بعضهم إلى ديارنا وهم أكثر صلابة في الإيمان والتقوى مما مضى! بل بعضهم تراه قد تحول في فكره جذريا من اللاتدين إلى التدين، وهذا يكشف أن قليلا من التنظيم لأمثال هؤلاء، وللجاليات الإسلامية التي تقطن في تلك البلاد، كفيل بتحقيق كثير من الطموحات والغايات المؤملة.
إن إسرائيل.. هذا الكيان الممقوت الذي يبغضه المسلمون، لم يكن قيامه إلا من خلال منظمة صهيونية عالمية انطلقت من الغرب، واستطاعت أن تنظم اليهود القاطنين هنالك بعدما كانوا شراذم هنا وهناك، لا رباط بينهم ولا وشيجة. وعندما أصبحوا قوة عالمية ضاغطة بفعل هذه المنظمة، استطاعوا أن ينتزعوا من المسلمين فلسطين، ويخلقوا فيها دولتهم التي أصبحت مقاليد العالم اليوم.. بيدها! فهلاّ استفدنا من هذا المثال؟!