ليس اعتباطا ولا هو من قبيل التهور أن يحمل اتجاه رسالي إمامي على عاتقه مهمة النيل من أعداء أهل البيت عليهم الصلاة والسلام رغم ما يتطلبه ذلك من تضحيات وما يجره من محاربات وما يفتحه من جبهات. وليس تأجيجا للأحقاد أو قبوعا في دائرة زمن غابر الإصرار على فضح ظالمي آل الرسالة وتعريتهم أمام العالم كله.
ربما هم يستهجنون طرحا من هذا القبيل، وربما يرونها فرصة لكيل التهم وإطلاق النعوت الشائنة، إلا أن هذا الاتجاه الولائي لم يشغل نفسه بالالتفات إلى تلك الأصوات بعدما التزم الشجاعة منطلقا في عصر اتسم بالخوف والتراجعية والتردد، مكثفا جهوده لتوعية الجماهير بما ينبغي أن تقوم به لاستعادة المجد، ومراهنا على الجيل الجديد في النهوض بأعباء إعادة تشكيل ثقافة المجتمع الإمامي بهدف إعادة صياغة العالم من جديد وفق رسالة أهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
كان هذا ولا يزال مبدأ أساسيا لاتجاه "خدام المهدي عليه السلام" واستراتيجية محورية في مختلف أعماله ومشاريعه. وقد كان في الاستيعاب؛ منذ البداية؛ أن هناك أطرافا داخلية - فضلا عن تلك الخارجية - لن يرضيها هذا المسار، وأنها ستستميت لقتله في مهده، لدواعي تتراوح بين نظرة قاصرة، ومصلحة مهددة، وسياسة مسيّرة. وبعض تلك الأطراف لم تجد بأسا من التحالف مع أعداء الملة في سبيل تحقيق مراميها في الانقضاض على هذا الاتجاه، وكم كانت تلك صدمة، إذ لم يكن بالبال أن أحدا - مهما كانت درجة اتفاقه أو اختلافه مع أدبيات الاتجاه - يمكن أن ينزع عن نفسه ثوب الولاء ويفسح مجالا للأعداء النواصب للطعن من الداخل. غير أن عناية من لدن حضرة القدس، مولانا ونور عيوننا صاحب الأمر صلوات الله وسلامه عليه، كانت مانعة لهؤلاء من إنفاذ كيدهم وقاصمة لظهور من تحالفوا معهم. فبقت الراية مرفوعة.
وبعدما باءت محاولات الانقضاض بالفشل؛ لم يجد هؤلاء طريقا غير زعزعة الثقة بالاتجاه، عبر ترويج شائعات وتهم وفريات لم تنطلِ إلا على العوام من الناس، فكانت سببا للقيل والقال، واضطررنا لاستخدام حق الدفاع والرد رغم أننا لم نكن نبغِ الولوج إلى هذه الساحة، لا لقصور فينا أو نقص، بل تقديما للأهم على المهم وللأولى على ما هو دونه. وعندما اضطررنا؛ رأى من رأى كيف أننا نزلنا إلى الساحة بثقلنا الذي لم يترك مجالا للمناوئين إلا الفرار حاملين معهم فشلا ذريعا.
قالوا: إنهم طائفيون يثيرون أحقادا! فرددنا: الطائفية مدرسة ترسخ الهوية وتحفظ في الوقت نفسه حق كل طرف في إبداء معتقده وفكره، وأنها على النقيض مما يُشاع عنها؛ تساعد على إنماء المجتمع المدني وحصول التوافق الاجتماعي المبني على استيعاب كل طرف للطرف الآخر. وذكرنا لبنان نموذجا حيا لما نراه، عدا عن الدول الغربية كافة.
وقالوا: إنهم يسعون لإحداث فتن وقلاقل! فرددنا: أية فتن هذه يمكن أن تنشأ من تنوير العقول وإعادة قراءة التاريخ وصولا لجمع الأمة على كلمة أهل البيت عليهم الصلاة والسلام؟! وأية قلاقل هذه يمكن أن تحدث في ظل الدعوة إلى النقاش الحر الرفيع الذي يحول دون بقاء نزعة إلغاء الآخر في النفوس؟! ألا يعتبِر العقلاءُ الحوار - بحد ذاته - أفضل أساليب معالجة الخلاف البشري بدلا من أن يتطور الأمر إلى نزاع وصراع قد يصل أحيانا إلى مرحلة مسلحة؟!
وقالوا: هم صبية متهورون!ّ فرددنا عليهم بأفعالنا لا أقوالنا، فإذا كان كل هؤلاء المستصغِرين؛ بكل رجالهم وعتادهم؛ غير قادرين على تحقيق جزء يسير من إنجازات هذا الاتجاه التي طورت بشكل ملحوظ من النشاط الشيعي الدعوي، فأنى لهم - وهم الناقصون - أن يذموا من يسعون إلى الكمال؟! ومن هم الآن "الرجال" حقا؟!
إن الإنجازات هي التي تتحدث اليوم، وهي التي تميط اللثام عن "الرجال" وعن "أشباه الرجال"، وما من منقصة في أن يكون غالب أعضاء هذا الاتجاه من الشباب المثقفين جنبا إلى جنب من يكبرهم خبرة وسنا، ألا يعلم المستصغرون بأن اليد الفاعلة التي غيرت من ملامح أي مجتمع أو كيان؛ إنما كانت يد الشباب المستنير؟! ألا تعود معظم الثورات والإبداعات التي وقعت على مر التاريخ وغيرت من ملامحه إلى دماء جديدة شابة؟!
أما ما ذكروه عن التهور؛ فلا يجبرنا أحد على أن نستعيد ماضيا أسود سيذكر هؤلاء القائلين بمن هو "المتهور" حقا، ولا يدفعنا أحد للحديث عن تفجيرات لأسواق ومصافي نفط؛ وحماقات ليس لها أول ولا آخر باسم "الإسلام المحمدي" و"الثورة المباركة".. تلك الحماقات التي كادت أن تقضي على الصورة المشرقة للشيعة والتشيع، كما قضت جماعة "طالبان" على صورة الإسلام في أعين أهل العالم.
إن المقياس في معرفة المتهور من المتحمس، مقياس دقيق جدا. نحن متحمسون، ولكننا غير متهورين. ولا يمكن إخضاع مسألة التقييم لكل من هب ودب، بل إنها تخضع لذوي العقول الراجحة، أولئك فقط - حين سؤالهم - سيقولون: إنهم ناشطون متحمسون على مستوى عالٍ من الفاعلية.
في الآونة الأخيرة؛ وبعدما عجزوا عن زعزعة الثقة؛ استحدث بعض هؤلاء الانهزاميين المناوئين لغة جديدة في معركتهم ضد هذا الاتجاه الولائي الناشط، وكانت مفاجأة حقا، إذ يقولون الآن: إنهم يخالفون مرجعيتهم ويسيرون على النقيض من نهجها فهي تدعو إلى اللاعنف وكلامهم وحديثهم كله عنف في عنف، فهاهم يلعنون ويشتمون رموز الآخرين ويسفهونهم حتى بلغ بهم الأمر أن جاءوا بنسب أحدهم (وهو عمر اللعين) جهارا نهارا، وهذا عدا عن كونه عنفا، فإنه يتسبب في إثارة سخط الآخرين والإيقاع في ما بيننا وبينهم في وقت نحن بحاجة فيه إلى أن نضع أيدينا بأيديهم!
تلك لغة جديدة أثارت الاستغراب حقا، فمنذ متى كان هؤلاء يعرفون شيئا عن التراث أو المنظومة الفكرية المرجعية؟! منذ متى كان هؤلاء - وهم الأبعدون - قادرون على استيعاب أدبيات ومفردات هذا التراث وهذه المنظومة؟! والعجب هو أن يتحدث هؤلاء بهذه اللغة بعدما كانت ألسنتهم تلوك وتلوك كل ما يمت بصلة إلى هذا التراث بالذات!
فليكن في علم هؤلاء أن هذا الاتجاه يعرف كيف يلتزم بالأطر المرجعية أكثر من غيره، ويعرف أهل الاختصاص والخبرة فيه كيف يميزون بين ما هو "عنف وحدية" وما هو "تبرؤ وتوعية".
ولهؤلاء نقول أيضا: هل أن الأئمة صلوات الله عليهم كانوا يتبعون أسلوب العنف عندما ركزوا في أقوالهم ووصاياهم وعباداتهم على فضح أعداء الله تعالى أعدائهم؛ فلعنوهم ودعوا إلى التبرؤ منهم، بل وأنشدوا أشعارا في ذلك "النسب" بالذات؟! هل نفهم من هؤلاء أنهم يعترضون على إمامنا الصادق صلوات الله عليه عندما أنشد أبياتا في شأن النسب:
"من جده خاله ووالده وأمه أخته وعمتهُ!
أجدر أن يبغض الوصي وأن ينكر يوم الغدير بيعتهُ"!
أم هل نفهم من هؤلاء أنهم سيتوقفون عن قراءة ونشر زيارة أبي عبد الله الحسين صلوات الله عليه لأنها تفيض باللعن والتبرؤ مئات المرات، ففيها: "اللهم العن أول ظالم ظلم حق محمد وآل محمد وآخر تابع له على ذلك (...) اللهم خص أنت أول ظالم باللعن مني وابدأ به أولا، ثم الثاني والثالث والرابع، اللهم العن يزيد خامسا". هل يجرؤ هؤلاء على القول بأن زيارة عاشوراء هي من مصاديق "العنف"؟!
إننا لا نكاد نجد زيارة واحدة لأحد من المعصومين صلوات الله عليهم إلا وتشتمل في مقطع من مقاطعها على لعن وتبرؤ لأعداء الله وأعداء رسوله وآله. وهذا يدلل على أن هذا الأسلوب هو من صلب نهج الأئمة عليهم السلام، وإحدى أهم ملامحه، إذ يأتي مرادفا للتولي. وهؤلاء بما يروجونه؛ كأنهم يريدون هدم تراث إمامي بأكمله قائم على ركيزتي التولي لأولياء الله والتبري من أعدائهم.
هؤلاء يعتبرون أن اللازم علينا فقط أن ننشر فضائل أهل البيت عليهم السلام ومناقبهم ونبتعد عن فضح أعدائهم أو إدانتهم، ونحن نعتبر أن التركيز على الفضائل وحده لا يكفي، بل يجب أن نتبعه بتركيز آخر على مثالب الأعداء، لأن الفضائل فقط لن ترجع أناسا إلى الحق، فكم من العامة يؤمن بفضائل أهل البيت عليهم السلام ويعتقد بها، وكم منهم يؤمن مثلا بأن أمير المؤمنين عليه السلام هو الأولى بالخلافة من سواه، وأنه أفضل ممن زامنه، إلا أنهم باقون على عقيدتهم المغلوطة في الانقلابيين ومن في مشربهم.
إن ذكر الفضائل فقط لن يعيد الأمة إلى جادة الصواب، بل يجب في الوقت نفسه كشف حقيقة من سلمت الأمة زمام نفسها لهم، كانقلابيي السقيفة ومن على شاكلتهم، فوقتئذ يظهر الحق وينجلي الباطل. ألا يرى هؤلاء كيف أن كل من التزموا طريق أهل البيت عليهم السلام واعتنقوا العقيدة الحقة تاركين ما كانوا عليه إنما كان السبب الجوهري في تحولهم هو اكتشافهم لحقيقة من كانوا عندهم في موقع القداسة من الخلفاء والصحابة؟! إنه ليس هناك أحد أقرب منا إلى أولئك المتشيعين المهتدين المستبصرين، فنحن نشهد أنه ما من أحد منهم إلا وكانت هذه هي النقطة الأساسية في قرار تحولهم الديني والمذهبي. وهاهي كتبهم تزخر بذكر ذلك، والمقابلات التي أجرتها (المنبر) معهم من أبرز الدلائل إذ ليس من أحد منهم ذكر سببا جوهريا غير هذه النقطة.
إن لغتنا ليست من مصاديق العنف، بل هي لغة تحرض على التمرد.. التمرد على الأفكار الموروثة والعقائد الباطلة والمفاهيم المغلوطة. نريد أن تنقشع هذه الغمامة عن أعين أهل الإسلام، ليميطوا اللثام عن الوجه الحقيقي لتلك الشخصيات البطولية الوهمية، وتلك الرموز والهياكل المحاطة بهالة من القداسة الزائفة. ذلك كفيل بانتشالنا مما نقبع فيه من تأخر وتقهقر، لأن انقلابيي السقيفة ومن إليهم، ليسوا مجرد أشخاص ماتوا ودفنوا فقط، بل إنهم يمثلون طريقا منحرفا عن طريق الله تعالى، ومنهجا مغايرا لمنهج الرسول وآل بيته صلوات الله وسلامه عليهم، ذلك الطريق والمنهج السقفي الذي أدى إلى ما أدى إليه الآن من رزايا.
نريد للأمة أن تلتزم بطريق يوصلها إلى التقدم والسعادة والنجاة في الدنيا والآخرة، فإذا كان ذلك يتطلب الهجوم على أئمة الجور والباطل، فإننا لن نتوانى عن ذلك مهما تطلب من تضحية، فإلى متى نستمر في أسلوب الدفاع عن أئمتنا فقط؟! أليس الهجوم أفضل وسيلة للدفاع؟!
كلا.. ليس ذلك الهجوم عنفا؛ فهذا ما يقضي به منهج المعصومين عليهم السلام، وهذا ما استقاه منه الفكر المرجعي الذي ما كان ليخالفه. إنما هو تحريض على التمرد على الباطل ليس إلا.