من جملة الأهداف العظيمة التي وضعها الخدّام نصب أعينهم وقرروها في وثيقة مبادئهم المعلنة؛ هدف معالجة مواطن الاعتلال في المجتمعات والوصول بها إلى حالة السلامة العقائدية الكاملة. وبالطبع فإن المقصود بالسلامة العقائدية هو أن يتم النأي بتلك المجتمعات عن العقائد الباطلة والفاسدة، وهدايتها إلى شريعة رب العالمين؛ أي إسلام أهل البيت عليهم الصلاة والسلام، مع الحرص على أن تكون هذه الشريعة نقية صافية ولائية، غير مشوبة بشوائب الجفاء والإنكار لمقامات أهل البيت (صلوات الله عليهم) أو التشكيك في مظلومياتهم. وغير مهجنّة بالاعتقادات الصوفية والعرفانية المنحرفة. وغير منكسرة أمام الملل والنحل والمذاهب الأخرى.
وتحقيق هذا الهدف العظيم على ما يتطلبه من جهد جبار وعمل مكثف؛ فإنه يتطلب أيضا اهتماما تطبيقيا من نوع خاص، كان قد أرساه رسول الله الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) في حركته النبوية الكبرى، إذ عالج ألوف العلل العقائدية التي كانت مستشرية في مجتمعات ذلك الحين في فترة زمنية هي أشبه بطرفة عين! رغم ما كان في تلك المجتمعات القبلية والأمصار المختلفة من بون شاسع في عقائدها، ورغم مواجهته (صلى الله عليه وآله وسلم) بإمكانات مادية وعددية متواضعة لأعتى الامبراطوريات الدينية التي كانت قائمة في ذلك الحين، كالفرس والروم والأحباش واليمانيين، وهم بين نصراني ويهودي ومجوسي، ناهيك عن قبائل الأعراب العابدة للأصنام التي كانت لها عقائدها المتوارثة أبا عن جد.
وإذا تتبعنا مسار الحركة النبوية؛ فسيعترينا الاندهاش! إذ كيف يمكن لكل هاتك العقائد المتأصلة في النفوس والمحمية من أنظمة وقوى أن تسقط في غضون ثلاثة وعشرين عاما فقط هي المدة التي خاضها نبينا المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) في حركته وبعثته؟! بل يجوز لنا أن نتعجب من كيفية حدوث هذه المعالجة التطهيرية الفائقة في فترة زمنية لم تتعدَّ أعواما عشر بدأت منذ انطلاقة الحركة الفعلية في المدينة المنورة بعد الهجرة النبوية الشريفة! حيث كان محمد الصادق الأمين (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل هجرته مقيّدا في موطنه مكة، وقد انحصرت حركته بسبب ما لاقاه من الأذى من قومه المتوحشين فحال ذلك دون تحقق الانطلاقة العظمى التي بدأت في المدينة. ولكنه (صلى الله عليه وآله) ما إن هجرهم وانتقل إلى يثرب؛ حتى توالت انتصاراته التطهيرية واستطاع في تلك الفترة الوجيزة أن يعالج كل اعتلال وكل مرض، ويقيم أعظم دين عرفته البشرية حتى يومنا هذا!
فما هو السر في هذا النجاح الباهر؟! ذلك ما يبيّن شيئا منه موضع أسرار رسول الله، أمير المؤمنين الإمام علي المرتضى (صلوات الله وسلامه عليه) إذ وصفه (صلى الله عليه وآله وسلم) في إحدى خطبه قائلا: "طبيبٌ دوّار بطبّه، قد أحكم مراهمه، وأحمى مواسمه، يضع ذلك حيث الحاجة إليه، من قلوبٍ عُمْيٍ، وآذان صُمٍ، وألسنة بُكمٍ. متتبعٌ بدوائه مواضع الغفلة، ومواطن الحَيرة"! (نهج البلاغة - الخطبة 108 في الملاحم).
بلى.. كان رسول الله طبيبا رام معالجة من حوله، ولكنه لم ينتظر أن يأتيه الناس ليتعالجوا ويتطببوا ويتداووا! بل كان هو السبّاق إلى مداواتهم، يدور ويصول ويجول بينهم، يعرض عليهم علاجه لآفاتهم، ويرشدهم إلى ما فيه سلامة نفوسهم وفلاحهم، إذ قال صلى الله عليه وآله: "قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا".
لقد كان النجاح في العلاج الذي تحقق على يدي خاتم الأنبياء والرسل (صلى الله عليه وآله وسلم) يعود في كثير منه إلى هذه المنهجية التي سلكها، أي أن يغوص بنفسه الشريفة في أعماق المجتمعات ولا ينزوي عنها ولا ينطوي، فكان بحق "طبيبا دوّارا بطبّه". ولذا نجد في تاريخه محطات تبعث على العجب! فهذا سيد الخلق والكائنات (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي بيده مقادير الملكوت والأكوان والتي وظائفه وأعماله أكبر وأعظم من أي شيء آخر سوى الله جل جلاله؛ تراه يقتطع جزءا كبيرا من وقته الثمين الذي لا يقدّر بقدر ليزور أحطّ الناس وليتحدث إلى مجموعة من عديمي الأخلاق والآداب الذين يمدّون أرجلهم أمامه ويقولون: "حدثنا وقصّ علينا يا محمد"!!
وفي الواقع فإن كل تلك التضحية التي بذلها النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) إنما كانت لأجل أن يتحقق هدفه الأسمى.. أن يتعالج الناس مما هم فيه من أمراض وأوبئة اعتقادية وفكرية وثقافية، ويعودوا إلى فطرتهم التي فطرهم الله عليها، والدين الذي ارتضاه لهم.
ولو أراد خدام المهدي صلوات الله عليه - في حركتهم التأسيسية للمجتمع المهدوي وتهيئة الأجواء للظهور المرتقب - أن يحققوا هدفهم ويعالجوا مَن حولهم؛ فعليهم أن يسلكوا المضمار نفسه. أن لا يركنوا إلى أعمالهم وينتظروا من المجتمع أن يأتي إليهم! بل عليهم أن يذهبوا إليه وأن ينتشروا في أوساطه وإن كان ذلك على حساب أوقاتهم المكتظة بالمسؤوليات والأعمال، حتى يغدو كل عضو منهم "طبيبا دوّارا بطبّه"، فإن المجتمعات تعاني من السأم والاعتلال، وتنتظر من مثل الخدام أن يعالجوها وينقذوها مما هي فيه. فعليهم إذن أن يتحركوا بفاعلية اجتماعية أكبر، تُكوّن أكبر شبكة ممكنة من العلاقات والروابط تسهم في خلق حالة السلامة العقائدية، وعليهم أن يكثروا من زياراتهم لمختلف الناس وأن لا ينزووا عن أحد مهما كان، فلعل الله يكتب أن تتحقق الهداية ببركة جهودهم.
ولا ينبغي للخدام أن يتراجعوا أو تثبط عزيمتهم مع ما يلاقونه من محاربات في هذا الطريق، فإن رسول الله الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) دار في الأرجاء وعانى أضعاف أضعاف ما عانوه، فهو في أولى جولاته التبليغية في الطائف رجع والناس ترجمه بالحجارة حتى سال الدم من جبهته المقدسة أرواحنا فداه! وهو مع كل ذلك لم يتراجع ولم ينكفئ رغم ما لاقاه من أذى وصدود تحقيقا للهدف الأسمى.. هذا وهو (صلى الله عليه وآله) قال: "ما أوذِيَ نبيٌ مثل ما أوذيت"!
وإن أراد الخدّام أسوة في هذا الزمن؛ فهذا إمام المظلومين الراحل (قدس سره الشريف) الذي كان أنموذجا مثاليا لهذه الحالة الإيجابية، إذ كان مرجع التقليد الوحيد الذي خرج عن التقاليد المرجعية المعهودة وانفتح على الناس كل الناس بمختلف مراتبهم ومستوياتهم، فزار الجميع حتى الصغار والأطفال! واقتطع من وقته لأجل القيام بجولة اجتماعية تعارفية لمجاملة هذا وذاك! ثم وإذا به كان يتحدث في ديوانه في الكويت إلى مجموعة كانوا يمدّون أيضا أرجلهم باتجاهه ويقولون: "تكلم يا سيد"!!
كان كما كان جدّه الأكبر رسول الله صلى الله عليه وآله؛ يضحي بوقته رغم مسؤولياته المرجعية الكبيرة، ويتخلق بأخلاق الأنبياء، ويدور بطبّه حتى يعالج من حوله.. ولولا ذلك لما استطاع تحقيق كل هذا!