قد يتوجه إشكال من العدو وهو: بعدما أثبتم أن أئمتكم كانوا يتكلمون بلحن القول والمعاريض والرموز والإيماءات، أوليس هذا قادحا في أئمتكم وفيكم إذ أن اللحن ليس سوى إيقاعٌ للناس في الارتباك والتشوش والاضطراب في فهم المعاني وبذا تتخالف الشريعة والأحكام! لأن فئة من الناس يفهمون شيئا من الكلام وفئة أخرى تفهم شيئا آخر.. فهل هذا من سيرة وهدى النبي الأكرم صلى الله عليه وآله؟!
- الجواب: نعم. كان هذا من سيرة النبي صلى الله عليه وآله في موارد، منها ما اعترف به العدو ورواه.
“لما انتهى خبر كعب وحيي إلى النبي صلى الله عليه وآله بعث سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وسيد الأوس سعد بن معاذ وبعث معهما عبد الله بن رواحة وخوَّات بن جبير، وقال لهم رسول الله: "انطلقوا إلى بني قريظة فإن كان ما قيل لنا حقاً فالحنوا لنا لحناً ولا تفتوا في أعضاد الناس وإن كان كذباً فاجهروا به للناس فانطلقوا حتى أتوهم فوجدوهم على أخبث ما قيل لهم عنهم، ونالوا من رسول الله صلى الله عليه وآله وقالوا: لا عهد له عندنا، فشاتمهم سعد بن معاذ وشاتموه، وكانت فيه حدة فقال له سعد بن عبادة: دع عنك مشاتمتهم فالذي بيننا وبينهم أكثر من ذلك ، ثم أقبل سعد وسعد حتى أتيا رسول الله صلى الله عليه وآله في جماعة المسلمين فقالا: عضل والقارة يعرضان بغدر عضل والقارة بأصحاب الرجيع خُبيب وأصحابه - فقال النبي صلى الله عليه وآله: أبشروا يا معشر المسلمين" (بحار الأنوار والسيرة النبوية لابن هشام وتفسير القرطبي وتفسير ابن كثير)
- من هذه الحادثة يتبين لنا أن النبي صلى الله عليه وآله قد أمر أصحابه باستعمال لحن القول بقوله لهم: “فالحنوا لنا لحناً”، حتى لا يثبِّطوا عزائم المسلمين ويضعفونها، وقد استجابوا لذلك حينما رجعوا وقالوا “عضل والقارة” يعرِّضان بغدر قبيلتي عضل والقارة بأصحاب الرجيع خُبيب وأصحابه.
- وكذلك الأئمة عليهم السلام على هدي جدهم رسول الله صلى الله عليه وآله، وقد اضطروا لاستعمال لحن القول بسبب جور الطغاة والظالمين عليهم.
- ومع ذلك فقد ربَّى الأئمة عليهم السلام فقهاء خبراء بمعاني كلام الأئمة عليهم السلام بحيث يعرفون ماذا يقصد الأئمة من هذا الكلام,
- مثال على أهمية فهم كلام الأئمة عليهم السلام وكيف أن عدم الفهم يمكن أن يكون له آثار على الفقه وعلى ما يُتعبَّد به الإنسان:
قال ابن إدريس في السرائر: فإن كان متمكنا من الحج والخروج فلم يخرج وأدركه الموت وكان الحج قد استقر عليه، وجب أن يخرج عنه من صلب ماله ما يحج به من بلده، وما يبقى بعد ذلك يكون ميراثا، فإن لم يخلف إلا قدر ما يحج به من بلده وكانت الحجة قد وجبت عليه قبل ذلك واستقرت، وجب أن يحج به عنه من بلده.
وقال بعض أصحابنا بل من بعض المواقيت، ولا يلزم الورثة الإجارة من بلده بل من بعض المواقيت. والصحيح الأول، لأنه كان يجب عليه نفقة الطريق من بلده فلما مات سقط الحج عن بدنه وبقى في ماله بقدر ما كان يجب عليه لو كان حيا من مؤنة الطريق من بلده، فإذا لم يخلف إلا قدر ما يحج به من بعض المواقيت وجب أيضا أن يحج عنه من ذلك الموضع. وما اخترناه مذهب شيخنا أبي جعفر في نهايته، وبه تواترت أخبارنا ورواية أصحابنا. والمقالة الاخرى ذكرها في مبسوطه، وأظنها مذهب المخالفين.
- رد المحقق الحلي على ابن إدريس في المعتبر: ومن أين يحج عنه؟ الأفضل من بلده، ولو حج عنه من ميقات، جاز. ولو قصر ماله حج عنه من أقرب المواقيت وبه قال الشيخ في المبسوط والخلاف، وقال بعض المتأخرين (ابن إدريس): لا يجزي إلا من بلده إن خلف سعة، وإن قصرت التركة حج عنه من الميقات، مدعيا تواتر أخبارنا، ورواية أصحابنا. ولنا: أن الواجب في الذمة ليس إلا الحج، فلا يكون المسافة معتبرة، ولأن الميت لو اتفق حضوره بعض المواقيت لا لقصد الحج أجزأه الحج من الميقات، فكذا لو قضى عنه، ودعوى المتأخرين تواتر الأخبار غلط، فإنا لم نقف بذلك على خبر شاذ، فكيف دعوى التواتر!
- رد العلامة الحلي على ابن إدريس في المختلف: وتواتر الأخبار دعوى باطلة فإنا لم نقف في ذلك على خبرٍ واحدٍ فكيف على متواتر؟!
- الخلاصة:
إن ابن إدريس الحلي أفتى في المسألة المذكورة بناءً على -تواتر الأخبار ورواية الأصحاب- كما هو يقول، في حين رد عليه المحقق الحلي والعلامة الحلي بقولهما “تواتر الأخبار غلط، فإنا لم نقف بذلك على خبر شاذ، فكيف دعوى التواتر” و “وتواتر الأخبار دعوى باطلة فإنا لم نقف في ذلك على خبرٍ واحدٍ فكيف على متواتر؟!”.
وهذا ليس منشأه الوهم والظن أو عدم وجود روايات في هذا الشأن، وإنما منشأه هو عدم فهم كلام الأئمة عليهم السلام على الوجه الصحيح، ولذلك وقع هذا البون الشاسع بين الطائفين، فتفطن.
* الآراء والنتائج التي يُنتهى إليها في هذا الدرس هي في مقام البحث العلمي فقط ولا يجوز العمل بها إن لم تطابق فتوى المرجع.