قال أبو نوح: فكنت في الخيل يوم صفين في خيل علي عليه السلام وهو واقف بين جماعة من همدان وحمير وغيرهم من أفناء قحطان، وإذا أنا برجل من أهل الشام يقول: من دل على الحميري أبي نوح؟ فقلنا: هذا الحميري فأيهم تريد؟ قال: أريد الكلاعي أبا نوح. قال: قلت: قد وجدته فمن أنت؟ قال: أنا ذو الكلاع، سر إلى. فقلت له:
معاذ الله أن أسير إليك إلا في كتيبة. قال ذو الكلاع: [بلى] فسر، فلك ذمة الله وذمة رسوله وذمة ذي الكلاع حتى ترجع إلى خيلك، فإنما أريد أن أسألك عن أمر فيكم تمارينا فيه. فسر دون خيلك حتى أسير إليك. فسار أبو نوح وسار ذو الكلاع حتى التقيا، فقال ذو الكلاع: إنما دعوتك أحدثك حديثا حدثناه عمرو بن العاص قديما في إمارة عمر بن الخطاب.
قال أبو نوح: وما هو؟ قال ذو الكلاع: حدثنا عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه قال: " يلتقي أهل الشام وأهل العراق وفي إحدى الكتيبتين الحق وإمام الهدى ومعه عمار بن ياسر ". قال أبو نوح: لعمر الله إنه لفينا.
قال: أجاد هو في قتالنا؟ قال أبو نوح: نعم ورب الكعبة، لهو أشد على قتالكم مني، ولوددت أنكم خلق واحد فذبحته وبدأت بك قبلهم وأنت ابن عمي. قال ذو الكلاع: ويلك، علام تتمنى ذلك منا؟! والله ما قطعتك فيما بيني وبينك، وإن رحمك لقريبة، وما يسرني أن أقتلك. قال أبو نوح: إن الله قطع بالإسلام أرحاما قريبة، ووصل به أرحاما متباعدة، وإني لقاتلك أنت وأصحابك، ونحن على الحق وأنتم على الباطل مقيمون مع أئمة الكفر ورؤوس الأحزاب. فقال له ذو الكلاع: فهل تستطيع أن تأتي معي في صف أهل الشام، فأنا جار لك من ذلك ألا تقتل ولا تسلب ولا تكره على بيعه، ولا تحبس عن جندك، وإنما هي كلمة تبلغها عمرو بن العاص، لعل الله أن يصلح بذلك بين هذين الجندين، ويضع الحرب والسلاح. فقال أبو نوح: إني أخاف غدراتك وغدرات أصحابك. فقال له ذو الكلاع: أنا لك بما قلت زعيم. فقال أبو نوح: اللهم إنك ترى ما أعطاني ذو الكلاع وأنت تعلم ما في نفسي، فاعصمني واختر لي وانصرني وادفع عني.
ثم سار مع ذي الكلاع حتى أتى عمرو بن العاص وهو عند معاوية وحوله الناس وعبد الله بن عمرو يحرض الناس على الحرب، فلما وقفا على القوم قال ذو الكلاع لعمرو: يا أبا عبد الله، هل لك في رجل ناصح لبيب شفيق يخبرك عن عمار بن ياسر لا يكذبك؟ قال عمرو: ومن هو؟ قال: ابن عمي هذا، وهو من أهل الكوفة. فقال عمرو: إني لأرى عليك سيما أبي تراب. قال أبو نوح: على سيما محمد صلى الله عليه وأصحابه، وعليك سيما أبي جهل وسيما فرعون. فقام أبو الأعور فسل سيفه ثم قال: لا أرى هذا الكذاب اللئيم يشاتمنا بين أظهرنا وعليه سيما أبي تراب. فقال ذو الكلاع: أقسم بالله لئن بسطت يدك إليه لأخطمن أنفك بالسيف. ابن عمي وجاري عقدت له بذمتي، وجئت به إليكما ليخبركما عما تماريتم فيه. قال له عمرو بن العاص: أذكرك بالله يا أبا نوح إلا ما صدقتنا، ولم تكذبنا، أفيكم عمار بن ياسر؟ فقال له أبو نوح ما أنا بمخبرك عنه حتى تخبرني لم تسألني عنه، فإنا معنا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه عدة غيره، وكلهم جاد على قتالكم. قال عمرو: سمعت رسول الله صلى الله عليه يقول: " إن عمارا تقتله الفئة الباغية، وإنه ليس ينبغي لعمار أن يفارق الحق ولن تأكل النار منه شيئا ". فقال أبو نوح: لا إله إلا الله والله أكبر، والله إنه لفينا، جاد على قتالكم. فقال عمرو: والله إنه لجاد على قتالنا؟ قال: نعم والله الذي لا إله إلا هو، ولقد حدثني يوم الجمل أنا سنظهر عليهم، ولقد حدثني أمس أن لو ضربتمونا حتى تبلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا أنا على حق وأنهم على باطل، ول كانت قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار. فقال له عمرو: فهل تستطيع أن تجمع بيني وبينه؟ قال: نعم.
فلما أراد أن يبلغه أصحابه ركب عمرو بن العاص، وابناه، وعتبة بن أبي سفيان، وذو الكلاع، وأبو الأعور السلمي، وحوشب، والوليد بن عقبة بن أبي معيط، فانطلقوا حتى أتوا خيولهم.
وسار أبو نوح ومعه شرحبيل بن ذي الكلاع حتى انتهيا إلى أصحابه فذهب أبو نوح إلى عمار فوجده قاعدا مع أصحاب له، منهم ابنا بديل وهاشم، والأشتر، وجارية بن المثني، وخالد بن المعمر، وعبد الله بن حجل، وعبد الله بن العباس.
وقال أبو نوح: إنه دعاني ذو الكلاع وهو ذو رحم فقال: أخبرني عن عمار ابن ياسر، أفيكم هو؟ قلت: لم تسأل؟ قال: أخبرني عمرو بن العاص في إمرة عمر بن الخطاب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه يقول: " يلتقي أهل الشام وأهل العراق وعمار في أهل الحق يقتله الفئة الباغية ". فقلت: إن عمارا فينا. فسألني: أجاد هو على قتالنا؟ فقلت: نعم والله، أجد مني، ولوددت أنكم خلق واحد فذبحتكم وبدأت بك يا ذا الكلاع. فضحك عمار وقال:
هل يسرك ذلك؟ قال: قلت نعم. قال أبو نوح: أخبرني الساعة عمرو ابن العاص أنه سمع رسول الله صلى الله عليه يقول: " عمار يقتله الفئة الباغية ". قال عمار: أقررته بذلك؟ قال: نعم أقررته فأقر. فقال عمار: صدق، وليضرنه ما سمع ولا ينفعه. ثم قال أبو نوح لعمار - ونحن اثنا عشر رجلا -: فإنه يريد أن يلقاك. فقال عمار لأصحابه: اركبوا. فركبوا وساروا ثم بعثنا إليهم فارسا من عبد القيس يسمى عوف بن بشر، فذهب حتى كان قريبا من القوم، ثم نادى: أين عمرو ابن العاص؟ قالوا: هاهنا. فأخبره بمكان عمار وخيله. قال عمرو: قل له فليسر إلينا. قال عوف: إنه يخاف غدراتك. فقال له عمرو: ما أجرأك على وأنت على هذه الحال! فقال له عوف: جرأني عليك بصيرتي فيك وفي أصحابك، فإن شئت نابذتك الآن على سواء، وإن شئت التقيت أنت وخصماؤك، وأنت كنت غادرا. فقال له عمرو: ألا أبعث إليك بفارس يواقفك؟ فقال له عوف: ما أنا بالمستوحش، فابعث بأشقى أصحابك. قال عمرو: فأيكم يسير إليه؟ فسار إليه أبو الأعور، فلما تواقفا تعارفا فقال عوف لأبي الأعور: إني لأعرف الجسد وأنكر القلب، إني لا أراك مؤمنا، وإنك لمن أهل النار. فقال أبو الأعور: لقد أعطيت لسانا يكبك الله به على وجهك في نار جهنم. فقال عوف: كلا والله إني أتكلم أنا بالحق، وتكلم أنت بالباطل، وإني أدعوك إلى الهدى وأقاتل أهل الضلالة وأفر من النار، وأنت بنعمة الله ضال تنطق بالكذب وتقاتل على ضلالة، وتشتري العقاب بالمغفرة، والضلالة بالهدى انظروا إلى وجوهنا ووجوهكم، وسيمانا وسيماكم، واسمعوا إلى دعوتنا ودعوتكم، فليس أحد منا إلا وهو أولى بمحمد صلى الله عليه وآله وأقرب إليه قرابة منكم، قال له أبو الأعور: لقد أكثرت الكلام وذهب النهار. ويحك ادع أصحابك وأدعو أصحابي، فأنا جار لك حتى تأتي موقفك الذي أنت فيه الساعة، فإني لست أبدؤك بغدر ولا أجترئ على غدر حتى تأتي أنت وأصحابك، وحتى تقفوا. فإذا علمت كم هم جئت من أصحابي بعددهم. فإن شاء أصحابك فليقلوا وإن شاءوا فليكثروا.
فسار أبو الأعور في مائة فارس حتى إذا كان حيث كنا بالمرة الأولى وقفوا وسار في عشرة بعمرو، وسار عمار في اثني عشر فارسا حتى اختلفت أعناق الخيل: خيل عمرو وخيل عمار، ورجع عوف بن بشر في خيله وفيها الأشعث بن قيس، ونزل عمار والذين معه فاحتبوا بحمائل سيوفهم، فتشهد عمرو بن العاص، فقال له عمار بن ياسر: اسكت فقد تركتها في حياة محمد صلى الله عليه وبعد موته، ونحن أحق بها منك، فإن شئت كانت خصومة فيدفع حقنا باطلك، وإن شئت كانت خطبة فنحن أعلم بفصل الخطاب منك، وإن شئت أخبرتك بكلمة تفصل بيننا وبينك وتكفرك قبل القيام، وتشهد بها على نفسك، ولا تستطيع أن تكذبني فيها. قال عمرو: يا أبا اليقظان، ليس لهذا جئت، إنما جئت لأني رأيتك أطوع أهل هذا العسكر فيهم. أذكرك الله إلا كففت سلاحهم وحقنت دماءهم، وحرضت على ذلك، فعلام تقاتلنا؟ أو لسنا نعبد إلها واحدا، ونصلي إلى قبلتكم، وندعو دعوتكم، ونقرأ كتابكم، ونؤمن برسولكم.
قال عمار: الحمد لله الذي أخرجها من فيك، إنها لي ولأصحابي: القبلة، والدين، وعبادة الرحمن، والنبي صلى الله عليه، والكتاب من دونك ودون أصحابك. الحمد لله الذي قررك لنا بذلك، دونك ودون أصحابك، وجعلك ضالا مضلا، لا تعلم هاد أنت أم ضال؟ وجعلك أعمى. وسأخبرك علام قاتلتك عليه أنت وأصحابك. أمرني رسول الله صلى الله عليه أن أقاتل الناكثين، وقد فعلت، وأمرني أن أقاتل القاسطين، فأنتم هم. وأما المارقون فما أدري أدركهم أم لا. أيها الأبتر، ألست تعلم أن رسول الله صلى الله عليه قال لعلي: " من كنت مولاه فعلي مولاه. اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ". وأنا مولى الله ورسوله وعلي بعده، وليس لك مولى. قال له عمرو: لم تشتمني يا أبا اليقظان ولست أشتمك؟ قال عمار: وبم تشتمني، أتستطيع أن تقول: إني عصيت الله ورسوله يوما قط؟
قال له عمرو: إن فيك لمسبات سوى ذلك. فقال عمار: إن الكريم من أكرمه الله، كنت وضيعا فرفعني الله، ومملوكا فأعتقني الله، وضعيفا فقواني الله، وفقيرا فأغناني الله. وقال له عمرو. فما ترى في قتل عثمان؟ قال: فتح لكم باب كل سوء. قال عمرو: فعلي قتله؟ قال عمار: بل الله رب علي قتله وعلي معه. قال عمرو: أكنت فيمن قتله؟ قال: كنت مع من قتله وأنا اليوم أقاتل معهم. قال عمرو: فلم قتلتموه؟ قال عمار: أراد أن يغير ديننا فقتلناه. فقال عمرو: ألا تسمعون؟ قد اعترف بقتل عثمان. قال عمار: وقد قالها فرعون قبلك لقومه: (ألا تستمعون)؟ فقام أهل الشام ولهم زجل فركبوا خيولهم فرجعوا، وقام عمار وأصحابه فركبوا خيولهم ورجعوا، فبلغ معاوية ما كان بينهم فقال: هلكت العرب أن أخذتهم خفة العبد الأسود يعني عمار بن ياسر. قال نصر: فحدثنا عمرو بن شمر قال: وخرج إلى القتال، وصفت الخيول بعضها لبعض، وزحف الناس، وعلى عمار درع بيضاء وهو يقول: أيها الناس، الرواح إلى الجنة.