ما ردكم على من يروج أن الأئمة عليهم السلام قد استعملوا الأسلوب اللين فقط في مناقشة خصومهم؟

شارك الإجابة على Google Twitter Facebook Whatsapp Whatsapp

ما رأي الشيخ ياسر الحبيب بهذا الخطاب لـ أحمد سلمان

اضغط هنا


بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم أجمعين

جواب المكتب:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

قد أجاب سماحته عن مثل هذا الإشكال الركيك في جواب سابق، والذي قرر تاليا ككتاب تحت عنوان (حل الإشكال)، نضع لكم منه بعض المقتطفات منه:

”لا بد هنا من انعطافة إلى الأسلوب والصياغة، ليُعلم الوجه في هذيْن الحديثيْن ونظائرهما مما يمكن أن يكون له تماس مع الأسلوب والصياغة، ولكيلا تتكرر الاتهامات المعهودة لأهل العالم الأول من أن أسلوبهم خلاف الحكمة، تلك الاتهامات التي ما نشأت إلا من سوء الفهم وضعف الاستيعاب. ولعل خير ما يمكن أن يبدّد سوء الفهم هذا إيراد بعض الأمثلة من القرآن الحكيم:

أمر الله تعالى موسى وهارون عليهما السلام بقوله: ﴿اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ﴾. إلا أنّا نجد في ما حكاه الله تعالى أن موسى عليه السلام لم يلتزم اللين المأمور به، بل تعدّاه إلى الخشونة كما في قوله لفرعون: ﴿وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا﴾ أي هالكاً ملعوناً معذَّباً لا خير فيك!

وهذا العدول عن اللين إلى التعدّي لم يكن اعتباطاً؛ حاشى الكليم عليه السلام، وإنما كان حكمة، ذلك لأن اللين إنما يمكن التزامه حال الشروع في دعوة المدعوّ، فإذا أبدى تكبّره وجحوده لم يكن للّين معه سبيل. وفرعون لعنه الله أصرّ على غيّه رغم الآيات البيّنات التي رآها وأتمّ بها موسى الحجة عليه، فقد قال الله: ﴿وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَىٰ﴾ وزاد على تكذيبه وإبائه الطعن بنبي الله إذ قال له: ﴿إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَىٰ مَسْحُورًا﴾ فكان من الحكمة بعدئذ التعدّي عليه ورشقه بما هو أهله من سهام الكلام والقوادح.

فالشاهد؛ أنه لا ينبغي توهّم إبقاء مخاطبة المدعوّ في مستوى اللين دوماً، فقد يكون اللازم تصعيد لهجة الخطاب وتسنينها معه. ولو أن امرئاً من أهل العالم الأول رُؤيَ وهو مشتدٌّ في الكلام مع مخالف لجحوده وتكذيبه وسوء ردوده؛ لتبارى أهل العوالم الأخرى في النكير والتشنيع عليه بمخالفته هدي القرآن والنبوة والمرجعية! ولقيل له: «ألا ترى كيف يدعو القرآن للّين حتى مع فرعون؟! ألا ترى كيف لم يزدد الأنبياء والأوصياء إلا حلما؟! ألا ترى كيف تدعوك المرجعية للاّعنف والرفق بإخواننا بل أنفسنا»؟! فليتَ شعري؛ أَهَل التزم موسى باللين والحلم مع فرعون تالياً أم لعنه في وجهه؟! وكيف أغفل الكليم ما لا يريد هؤلاء المتفيهقون إغفاله من اللين والحلم على كل حال؟!

دعني يا أخا الإيمان أقولها لك بصدق: إن البلية كل البلية عند أهل العوالم الأخرى هي في نقصان الحظوظ من العلم والفقه، والمعرفة والتدبر، والاطلاع والالتفات، هذا النقصان هو ما يُنقص من أبصارهم وبصائرهم، فتختل استنتاجاتهم وآراؤهم، حين ينظرون بعين عوراء، يرون بها ما أكّدت عليه الشريعة وطابقته السيرة من التزام الرفق واللين، دون أن يروا في المقابل ما أكّدت عليه الشريعة وطابقته السيرة أيضاً من التزام الشدة والخشونة!

كلكم ترون ﴿فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا﴾ لكنكم لا ترون ﴿وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا﴾!

كلكم ترون ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ لكنكم لا ترون ﴿كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ * فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ﴾! ولا ترون ﴿إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا﴾ ولا ترون سبّ النبي صلى الله عليه وآله لعمرو بن عبد ود العامري حين قال: «مَن لهذا الكلب»! ولا سبّه لأخي عثمان في وجهه وفي المسجد الحرام بقوله: «ما منعكم أن يقوم أحدكم إلى هذا الكلب فيقتله»! ولا سبّه لعائشة يوم قال لها: «لقد خَبُثتِ أنت»! وتعييره إياها بوصمة (الحميراء) أو (حميراء الساقين)! ولا شتمه لمروان وهو طفل رضيع بقوله: «الوزغ ابن الوزغ، الملعون ابن الملعون»! ولا إخزاءه معاوية بمؤخرته الكبيرة بقوله: «ويلٌ لأمتي من معاوية ذي الأستاه»! وقوله: «است معاوية في النار»!

كلكم ترون ﴿وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّـهِ﴾ لكنكم لا ترون ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّـهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ﴾! ولا ترون ﴿وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ﴾ ولا تبصرون ﴿ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ»!ولا قول أمير المؤمنين عليه السلام لأبي سفيان: «لعنك الله! ولعن اللات والعزى معك»!

كلكم ترون ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ لكنكم لا ترون ﴿إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ﴾ مع أنها آية واحدة! فكيف أبصرت العيون صدرها ولم تبصر ذيلها حتى أن محاورنا الكريم بترها في رسالته لنا!

كلكم ترون قول أمير المؤمنين عليه السلام في النهي عن سب أهل الشام: «إني أكره لكم أن تكونوا سبّابين» لكنكم لا ترون سبّه الصريح لأهل الشام بقوله: «جفاة طغام وعبيد أقزام جُمعوا من كل أوب وتُلقِّطوا من كل شوب»! ولا تبصرون سبه للبرج بن مسهر الطائي بقوله: «قبحك الله يا أثرم»! ولا شتمه للمغيرة بن الأخنس بقوله: «يابن اللعين الأبتر والشجرة التي لا أصل لها ولا فرع»! مع أن الجميع في نهج البلاغة المشحون باللعن والطعن وبذكر المعايب والقبائح وبالقدح في الأنساب والأعراض كما قال المحقق الكركي عليه رضوان الله.

ولعمري لئن لم تبصروا كل هذا في نهج البلاغة فما ههنا عجب من أن لا تبصروا ما في غيره مما هو دونه في الشهرة والتداول، كالذي في مناقب ابن شهراشوب من قول أمير المؤمنين عليه السلام: «ويلكم يا أهل الشام! أما تستحيون من معاملة المخانيث! لقد علمكم رأس المخانيث عمرو»!

ألا فافتحوا أعينكم جيداً وطالعوا مليّاً واقرأوا حثيّاً؛ وخلاكم ذم! فإنكم إنْ فعلتم اكتشفتم أنه على مرور الأزمان كان هنالك خطان معصوميان شريفان متوازيان، لا يعدم أحدهما الآخر، ولا يخلو منهما زمان، أحدهما خط ليّن، والآخر خط خشن. والغلط إنما هو في توهم أن هنالك خط واحد، وأسلوب واحد. أو في توهم أن أحدهما هو الأصل أو القاعدة والآخر هو الاستثناء أو العارض. كلا! إن الأمر أوسع من ذلك وأعمق، والفقيه حق الفقيه هو مَن يدرك هذه الحقيقة، أنهما خطّان متوازيان لا ينبغي خلو الساحة التبليغية منهما. وقد أدركها سيدنا المرجع دام ظله في مدلول جوابه لأحد المشايخ من العاملين في مكتبه، إذ أبلغني أنه كان قد سأله عنّا قبل ما يربو على اثنتي عشرة سنة إذ تكاثرت علينا الأقاويل، فكان جوابه: «لا بد تحت هذه السماء من أن يكون هنالك من يقول الحقيقة الكاملة بصراحة». هذا مع ما هو معلوم من شدتنا وما نمثّله من عبءٍ على المرجعية وإحراج لها.

والاستقراء الناقص هو ما قد يوقع بعضهم في التماس محامل الاستثناء والقضايا الخارجية لما جاء في الشدة والخشونة، كأن يقال بأنها موارد للتعامل مع مَن لا ترتجى هدايته أو مع مَن هو متجبّر طاغٍ كمعاوية وأشباهه. ذلك لأن تفحّص تراث المعصومين عليهم السلام يكشف عن كثرة هذا الاستعمال حتى في غير هذه الموارد، فعلى سبيل المثال، ورد أن أمير المؤمنين عليه السلام كان جالساً في بيت مع «شيعته وخواصّه» فقال: «إن هؤلاء القوم سيظهرون عليكم فيقطعون أيديكم ويسملون أعينكم. فقال رجل منا: وأنت حي يا أمير المؤمنين؟ فقال: أعاذني الله من ذلك. فالتفت فإذا واحد يبكي، فقال له: يابن الحمقاء! أتريد باللذات في الدنيا الدرجات في الآخرة؟! إنما وعد الله الصابرين».

فكيف ترى قوله عليه السلام لرجل من شيعته وخواصّه: «يابن الحمقاء» لمجرد أنه قد بكى حين علم أنه ستُقطع الأيدي وتُسمل الأعين؟! أتراه لينا ونعومة؟! أم تراه خشونة مع متجبّر أو مع مَن لا تُرتجى هدايته؟! كيف والرجل من الخواص؟! أهكذا يُعامَل الشيعة الخواص؟! بلى! فالخاصيّ يفترَض أن يكون أشد شكيمةً من البكاء خوفاً من التعذيب! فإن وقع في هذا الانهيار النفسي كان من الحكمة توبيخه ليشتدّ.

وكيف ترى قوله عليه السلام لذلك الرجل الذي جاءه قائلاً: «السلام عليك يا علي. فقال له علي عليه السلام: وعليك السلام. مالَك - ثكلتك أمك! - لم تسلِّم عليَّ بإمرة المؤمنين»؟ فأجابه الرجل بأنه واقع في شبهة بسبب ما جرى من التحكيم، مقسماً بقوله: «والله لأن أعرف هداك من ضلالتك أحبُّ إليَّ من الدنيا وما فيها. فقال له: علي عليه السلام: ثكلتك أمك! قف مني قريباً أريك علامات الهدى من علامات الضلالة»، ولمّا أن رآها الرجل «نزل عن فرسه فأخذ بيد أمير المؤمنين عليه السلام وبرجله فقبّلهما. فقال علي عليه السلام: هذه لك آية».

فها أنت ترى أن الرجل كان ممن يعلم أمير المؤمنين عليه السلام أنه سيهتدي، خاصة وهو يبدي استعداده لذلك مقسماً بالله عليه، ورغم ذلك لم يمنع هذا أميرَ المؤمنين عليه السلام من أن يحتدّ معه ويذكر أمه بالثكل مرّتيْن! فكيف ترى ذلك؟ وكيف ترى قول الحسين عليه السلام للحر بن يزيد الرياحي عليه الرضوان: «ثكلتك أمك» وهو عالمٌ بما سيصير إليه أمره من حسن العاقبة؟! إلى غيرها من الموارد التي لسنا بصدد تعدادها، والتي إذا انضمّت إلى ما عُلم من خطاب القرآن الحكيم بأقذع العبائر لطوائف من العموم مما نزل القرآن أصلاً لدعوتهم وهدايتهم، وكذا ما عُلم من السنة؛ كان من المكابرة حملها جميعاً على الاستثناء والقضية الخارجية الخاصة.

ومحاولة المناقشة في أسناد روايات السب والخشونة تلك جهد العاجز، لاشتهار بعضها، وانجبار بعضٍ آخر، واحتفاف بعضٍ ثالث بقرائن الصدور، واعتضاد بعضٍ رابع بمعضدات، فلا تقصر في مجموعها عن الاعتبار، ولا يكون ردّها جميعاً إلا تعنتاً. على أن منها ما هو صحيح السند عالٍ، كرواية القداح عن الصادق عن أبيه عليهما السلام أن أمير المؤمنين عليه السلام قال لابنه محمد بن الحنفية يوم تكعكع في النهروان: «قدّم يابن اللخناء»! فهل ترى أغلظ منها سبّاً وهو يذكر لابنه أمّه في مسمع الرجال واصفاً فرجها بعدم الاختتان أو نتانة الريح؟! وترى الصادق عليه السلام لا يحتشم من نقل ذلك لأصحابه حتى يحدثوا به فيرويه الرواة ويدوّنه المصنّفون فيصل إلينا عبر القرون! هذا مع أن ابن الحنفية - على المظنون فيكم - هو عندكم من أهل الصلاح بخلاف ما نذهب إليه من طلاحه، فتكونون محجوجين بهذه بأعظم من غيركم، إذ يُقال: إنْ لم تتنافَ الحكمة مع سبّ مؤمن - كابن المعصوم - بأمّه لداعٍ ما؛ كان عدم التنافي مع سبّ غير المؤمن لداعٍ ما أثبت وآكد.

ولا تغفل عن أن من الحكمة تشديد الخطاب وتغليظه في فروض وأطوار لا مع المتجبّرين والمعاندين فحسب؛ بل حتى مع مَن تُتَرَقَّبُ هدايته، بل ومع المؤمنين والخاصة أيضاً بما يبلغ الإيذاء! ففي الحديث عن الصادق عليه السلام: «إنه قد حق عليَّ أن آخذ البريء منكم بالسقيم، وكيف لا يحق لي ذلك وأنتم يبلغكم عن الرجل منكم القبيح ولا تنكرون عليه ولا تهجرونه ولا تؤذونه حتى يتركه»؟! وغني عن البيان أن من مصاديق الإيذاء تغليظ اللهجة.

فالحاصل؛ أن الخطاب الحاد الخشن مطلوب إلى جانب الخطاب اللّين الناعم، لأن كلّاً منهما لا يسدّ مسدّه الآخر ولا يغني عنه. وللخطاب الخشن فوائده، فهو مع المتجبّرين فضح لهم وإسقاط، ومع المتعنّتين كسر لهم وإلزام، ومع الفاسقين صدٌّ لهم وردع، ومع المؤمنين زجر لهم وتهذيب، ومع المتكعكعين توبيخ لهم وتأنيب، ومع الذين تُتَأمَّلُ هدايتهم تحفيز لهم وتحريض. وهكذا تتنوع الفوائد والعوائد من استخدام هذا الأسلوب، والحاذق هو الذي يميّز بدقة الموارد التي تستأهله، فإن أصاب فأجره عند الله، وإن أخطأ فهو معذور إنْ لم يألُ جهدا. وإذ لا يمكن خلو زمان من مثل هذه الموارد بداهة وجود هذه الأصناف؛ كان بقاء هذا الأسلوب في خط موازٍ لخط اللين ضروريا“. انتهى

لقراءة كتاب حل الإشكال:

https://www.al-qatrah.net/images/books/halishkal.pdf

وفقكم الله لمراضيه.

مكتب الشيخ الحبيب في أرض فدك الصغرى

29 شوال 1445 هجرية


ملاحظة: الإجابات صادرة عن المكتب لا عن الشيخ مباشرة إلا أن يتم ذكر ذلك. المكتب يبذل وسعه في تتبع آراء الشيخ ومراجعته قدر الإمكان.
شارك الإجابة على Google Twitter Facebook Whatsapp Whatsapp